ما زالت بيروت العثمانية تشكّل موضوع درسٍ معرفيّ يُرجَعُ إليه بين الفترة والأُخرى، أو على وقع الأزمات التي تلمّ بلبنان في محاولة لفهم مُجريات الأمور أحياناً أو في سعيٍ للبحث عن تقاطعات بين الماضي والحاضر. خاصّة أنّ المدينة، خلال تلك الفترة، قد كثّفت في نواتها الشكلَ الأوّلي لِما هي عليه اليوم عُمرانياً ومالياً على الأقل، إذ ربما طرأ على باقي النواحي تغيّرٌ ملموس.
"بيروت 1887 – 1918: اجتماعياً، صحّياً، مصرفياً" عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن دار "القلم" للباحث زكريا الغول، الذي يسلّط الضوء على تلك الفترة من عُمر المدينة (مرحلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر) بوصفها فترة تأسيسيةً لو نظرنا إليها من ناحية تنظيمية، وتنطبق في بعض أجزائها على المدن المجاورة أيضاً، إنّما بمقدار غلبت فيه المركزية على بيروت التي ستصبح لاحقاً عاصمة للبنان.
يحناقش الكتاب عدداً من القضايا، من أهمّها زيادة عدد سكان المدينة وأثره على مفهوم الحدود القديمة لها، أو ما يُعرَف بـ"الأسوار". كما تشهد هذه المرحلة على حركة نشطة للإرساليات الأجنبية ودورها الثقافي، إلى جانب أنّ مدناً مختلفة من العالم العربي قد بدأت تعرف ملامح نهضوية مشابهة. إلّا أنّ إنشاء المرفأ في بيروت عام 1894 يبقى الحدث العمراني الأبرز، والذي تقف الناس على أطلاله اليوم بعد فاجعة انفجاره في 4 آب/ أغسطس 2020.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول؛ في الفصل الأوّل يتطرّق الباحث إلى جملة من الموضوعات التي ترتبط بالتغيّرات الديمغرافية، حيث انتقلت المدينة إلى وضعية جديدة في تاريخها بعد أن أصبحت مركزاً لولاية عثمانية، وهذا ما انعكس تنظيمياً وإداريّاً على نواحٍ كثيرة. كما أنّ الصورة العصرية التي راحت تتشكّل بفعل الرساميل الوافدة، وانتشار الجمعيات التي دعت إلى تحرّر المرأة، تركَ أثراً واضحاً على تطوّر الحياة الثقافية في لبنان عامّة.
وبما أنّ ما تعيشه بيروت اليوم من أزمات في جزء منها يراوح ما بين الصحّي والمالي، ويتعدّى الموقف العمراني أو الفكري، فإنّ الكتاب يتناول في فصله الثاني مسألة المستشفيات وتاريخيّتها، ومنها الأميركي والحميدي والفرنسي. أمّا الفصل الثالث، فيخصّصه الباحث للحديث عن القطاع المصرفي وما شهده في تلك المرحلة الجنينيّة، مثل "البنك العثماني" و"البنك الانكليزي الفلسطيني" وغيرهما من المصارف المحلّية.