صدر قديماً: "بعضُ مَن عرفتُ" لمحمد التابعي.. تمارين مبكّرة في الاقتصاد الأسلوبي

11 ديسمبر 2021
(محمد التابعي إلى جانب فاطمة اليوسف في القاهرة، 1934)
+ الخط -

لئن كان محمد التابعيّ (1896 - 1976) أحد أشهر وجوه الصحافة العربيّة في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه حين طرق بابَ الأدب لم يجد آذانًا صاغية. أو هذا ما نَستشفّه من غياب الانشغال النقدي بعددٍ من مُؤلّفاته ككتاب "بعضُ مَن عرفتُ"، الصادر سنة 1969 عن" دار المعارف"، في حين أنّ التنقُّل بين الصّحافة والأدب موضوعٌ يُفترض أن يَلفتَ نظر النقّاد والباحثين، لأنّه مَشغل أثيرٌ في مختلف الثقافات، حيث تُمثّل تقاطعات الأدب بالصحافة ركناً ركينًا لفهم نصوص كتّاب كبار مثل زولا وهيمنغاوي وماركيز، من ناحية الأسلوب أو من زاوية الإحالات إلى الوقائع داخل النصوص المُتخيَّلة.

وفي هذا المفترق يقع كتاب التابعي؛ فهو مجموعة من الأقاصيص تدورُ أحداث جلُّها في باريس، في حقبة مَا بين الحربيْن، وتُصوّرُ تلكَ العلاقات العابرة التي عاشها الصحافيّ المصريّ أثناء حضوره في مدينة "الجِنّ والملائكة"، كما كان يُسمّيها معاصرُه طه حسين. لا صلةَ منطقيّة ولا حَدَثيّة تربط بين هذه الأقاصيص، وهي في العَدّ سبعٌ، سوى الأسلوب الواقعيّ الصّادق؛ فالكاتب يُصوّر عواطفَه وَتجاربهُ في جرأة نادِرة، ولا يتورّع عن ذكر تفاصيل صادمة طيَّها. كما تجمع بينها فكرةُ الهَشاشة التي تهدّد تلك اللقاءات بعد أن رتّبَتها الصّدفة وجاد بها التسكّع، وبذلك تكون كتابتها تجميلًا لهشاشة الوجود بأسره، حيث "كلُّ وصْلٍ بالفراقِ مُهدد". ولكن مَا الأثر الذي أحدثه هذا الأسلوب القَصصي في التاريخ الأدبي الحديث؟ هل هو تجسيدٌ للقطيعة أم تواصلٌ مع الإرث الرومانسي الذي مارسه سابقوه؟ ذلك ما تصمُت عنه، حتى اليوم، مباحث المشتغلين على الأدب العربي دراسةً وتأريخًا.

تؤكّد مُطالعة هذا النصّ، ونحن على مسافة عقود كثيرة منه، أنّ التابعي دشّنَ عَبْرَه نهجًا كاملًا في الكتابة السّردية، يقوم على نبذ التكلّف والتهويل الرومانسي الذي ظلّ سائداً في العقود الخمسة الأولى منذ صدور "زينب" لِهَيكل وَسائر كتابات المنفلوطي والعقّاد، وحتى الكتابات الأدبية الأولى لطه حسين. سَرْدُ التابعي هُنا قائمٌ على مبدأ الاقتصاد الأسلوبي حيث تغيب النعوت التي طالما حُشي بها الفنّ القصصي وتقلّ صور البيان التي كانت عماد البَلاغة الأدبيّة طيلة قُرون. وعندما يعرض لشَخصيات، فهو يستحضر شخوصًا عابرة، ملامحها باهتة، لا أثرَ للبطولة في سِيَرها، جلُّها من النساء الفرنسيّات أو من دول أوروبا الشرقيّة، عرفهنّ جميعًا لساعةِ أو ليلة مُختلَسة من الزمن، وغالباً ما فارقهن ثم عاود اللقاء بهنّ صدفة، وأغرب تلك اللقاءات كان مع امرأة اجتمع بها في باريس الأنوار ليَراها بعد سنين، على شاشة السينما، في قاعةٍ مُظلمة بالقاهرة.

عملٌ نبذَ مؤلّفه التكلّف الرومانسي الذي ساد لخمسة عقود

وهكذا، مرّت هذه التّجارب العابرَة والكثيفة مَرّ السّحاب حينَها، ثم استعادها بعد ثلاثين سنة في تدشينٍ لهذا الفن السردي، الذي أبدع في استحداثه، القصة القائمة على واقعة، بما فيها من صدقٍ، ينقل لحظات الضعف والنبل، وما يلابسهما من ظمأ إلى الحياة وتوقٍ إلى لذّاتها. لا يصرفه شيء عن مُتابعة عواطِفه والجَري مع أهوائِه سوى رغبة الكتابة والتقاط لَمحَة الصدق، أنّى كانت مظاهرهُ.

ولذلك جاء الأسلوب فيها تصويريًّا دقيقًا، لا أثر للتهويل فيه ولا حضورَ لأيّ مُحسّن بلاغيّ، بل لَمَحات موجزة، أفضل أوصافها أنها من "السهل الممتنع"، وعَبره يغوص في أغوار النفس البشرية، نفوس أوروبياتٍ تباينت انتماءاتُهنّ الطبقيّة والثقافيّة، التقين عربيًّا مصريًّا في مدينة النور، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وشاركنه تحرّر فكره التائه الجَسور، بين فنادقها ومَطاعمها وحتى مواخيرها. عَرض كلّ ذلك دون أدنى فَجاجة ولا إباحية. بلّ في فنٍّ من أصفى ما جاد به القلم العربي في القرن الماضي.

بعض من عرفت - القسم الثقافي

ولذلك، لطالما أطلق معاصرو التابعي عليه ألقابًا مثل "أسطورة الصحافة العربية" و"أمير الصحافة"، وهي مُبالغات لم يَعد يَستسيغُها ذوقُ عصرنا، والأكيد أنه هو نفسه لم يستسغها، فحين نقرأه في كتاب "بعض مَن عرفت" سنرى كم كان ضنينًا بالنعوت والمبالغات، وكم جسّد القطيعة بين أساليب الكتابة الصحافيّة والأدبية، يودّ أن يوفّق بينهما، لكن من منظور الحرص على أن تكون اللغة مرآة للواقع كما يُفترض في الصحافة أن تكون، فكأن هذه المجموعة أدبٌ قائم على مسلّمات المهنة الصحافية، حيث أسقطَ ثقلَ التراكيب وهدَم عرشَ البلاغة المهترئة التي سادت في نصوص الأدب العربي حتى زَمنه. وكأنه وضع في اعتباره، وهو يكتب هذه الأقاصيص، شروط المقالة الخبرية ومعاييرَها، ومن هذه الزاوية تظهر عوالمه وفضاءاته كما هي في الحياة؛ مَزيج من سُجون وحانات وقُصور وفنادق فَخمة وبسيطة، تَنصهر فيها المتناقضات تحت ريشته فلا يبدو منها إلا حسٌّ ساخرٌ، وعَبثية عميقة، يصارعهما نبلٌ في خبايا النفس أعمق وأصدق.

ومع ذلك، لم تُثر هذه الأصالة في نصوص التابعي البعيدة عن أوراق الجرائد اهتمام الباحثين، على ما فيها من إشكاليّات أسلوبية وأدبية. ومنها أن نتساءل: لماذا فكّر في التأريخ أدبيًا لمرور عابر من باريس، ولم يفكّر أن يُدرج القاهرة وناسها في عمل أدبيّ شبيه، وهو الذي كانت وظيفته ومكانته تتيح له أن يسلط الضّوءَ على أماكن لا يبلغها عادة، ككواليس أهل الحكم وحكايات النُخب وما خفي من العلاقات بين دوائر السياسة والإعلام والأدب.

قلّت فيه صور البيان التي لطالما عُدّت عماد البلاغة الأدبية

كذلك، تظل تلك العلاقة الجديدة التي عَقدها بين اللغة القصصية والواقع في حاجة لفضل تعمقٍ بأدوات النظريات النقدية الحديثة، فهو يمضي في تمثيله حتى نخاله صادقًا، وإذا بنا لا نُمسك منه سوى صورة باهتة، وهذه هي المخاتلة في أبدع مراتبها: إيهامٌ بالواقعيّة، وإذا فتشتَ طيّها، عُدتَ بسرابٍ لا يُمسَك. ولذلك، لا نكاد نجزم إن كانت الأحداث التي رواها في هذه الأقاصيص وقائع ثابتة أم أنّها من نَسج الخيال.

ومما يعزّز الشكوك أنّ التابعي كان يذكر بعض الأسماء التي وُجدت بالفعل ويذكر العناوين والأحداث التي حصلت فعلًا، وماهي إلا ذرّ رماد في عُيون القارئ، يوهمه بواقعيّة أقاويله، في حين أنها تتّصل وثيق الصلة بالخيال والرؤى والسحر بِالكلام، ومن ذلك قوله: "كان في الجو دفء الصيف، وفي الدم بقية طيّبة من ربيع الحياة، بقيّة تتوثّب.... إلى ماذا؟ والشوق... إلى ماذا؟"؛ حيث تتراصف الكلمات صافية مخاتلة، تَغرّ بصدقها وتخدَع بتمثيلها الواقعي، تُبحر في العواطف والتساؤل، وهنا تكمن وظيفة الفنّ الأصلية، وقد أدّاها في فسيفساءَ أسعفته بها الضاد المعاصرة، بعد تحرّرها، وهو ما يجعل بَعضَ مَن عَرفه بعضَ من عَرفناه نحن، كلٌّ في بيته، بين عواطفِه وذكرياته.

المساهمون