يقود الحديث عن الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز (1812 – 1870) إلى زمنٍ تأسيسي لفنّ الرواية عالمياً؛ فما طرحته تلك الفترة من مواضيع وإشكاليات اجتماعية وتاريخية وسياسية (ما يُسمّى بالعصر الفيكتوري) بات مرجعاً كلاسيكياً لكثير من النظريات النقدية. كذلك الأمر في ما يتّصلُ باللّغة المُستخدمة التي ميّزت روايات صاحب "قصّة مدينتين" (1869) و"آمال كبرى" (1861)، بقدر ما ميّزت الحواراتُ العالَم المسرحي عند وليم شكسبير.
عن دار "آفاق للنشر والتوزيع" في القاهرة، تصدر قريباً - في جزأين - الترجمة العربية لرواية "بارنابي ردج" للروائي الإنكليزي البارز، بتوقيع المترجِم محمد سالم عبادة. تُعدّ الرواية أولى كتابات ديكنز التاريخية، إذ تدور أحداثُها عام 1780، وبالتحديد حول ما يُعرَف بـ"شغَب غوردون"، وهي الاحتجاجات التي رفعت مقولة "لا للبابوية" شعاراً لها. ورأى العمل النور ــ أوّل مرّة ــ عندما نُشر على أجزاء في دورية "ساعة السيد هامفري" التي أصدرها الروائي بين عامَي (1840 و1841).
ورغمَ أنّ الرواية لم تنل حظوة عند دارسي الأدب والنقّاد، مثل ما حازت عليه روايات أُخرى سطّرها ديكنز، إلا أنه لا يمكن إغفال قيمتها التاريخية، كما أنّ البعض ينظرُ إليها بوصفها "عتبة أُولى" ما كان لولاها أن يصل صاحب "أوليفر تويست" إلى ما وصل إليه.
تستلهم الرواية في عناصرها المختلفة إطاراً تاريخياً حدث في إنكلترا أواخر القرن الثامن عشر، هو مزيج من الصراعات الدينية ذات الخلفية السياسية، في طور كانت "الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس" تعيش على وقع تهديدات كُبرى، سواء من قوى استعمارية منافسة مثل فرنسا، أو حرب الاستقلال الأميركية. ومن هُنا، فإنّ قراءة هذا العمل تُحيلُ بشكلٍ أو بآخر إلى العمل التاريخي الأبرز لديكنز، أي "قصّة مدينتين"، التي اشتُهرت باتّخاذها من الثورة الفرنسية وأحداثها خلفيّة لها.
وكعادته، يحشد الروائي الإنكليزي في أعماله مظاهر شتّى من البؤس الاجتماعي، كما يرصد حالات الفقر والفاقة التي تلمّ بعموم الشعب، مقابل طبقة النبلاء التي تتمكّن دائماً من تخليص نفسها؛ بسبب تغلغلها في العلاقات السلطوية، فتؤمّن مصالحها عبر تلك القناة.
لا تختلق روايات ديكنز أيّة إسقاطات مبالغ فيها لو أردنا عرضها ضمن سياق الراهن العربي؛ على العكس تماماً، إذ يمكنُ القول إنها ما تزال راهنة، شأنها شأن كثير من الأعمال الكلاسيكية الكُبرى، وبالأخص خلال السنوات العشر الماضية التي شهدت صراعات اجتماعية وسياسية، وهذا ما قد يجد القارئ العربي بعض آثاره في هذه الرواية.