"النمر الأبيض": سيرة ذاتية لهندي نصف مخبوز

26 ابريل 2022
من الفيلم
+ الخط -

برصاصة وحيدة في جيبه استطاع الكاتب الهندي- الأسترالي أرافيند أديغا اصطياد جائزة "مان بوكر" عام 2008. كان الشاب ذو الثلاثة وثلاثين عاماً يكتب رواية لأوّل مرّة، والإهداء كان "إلى رامين بحراني"، وما هذا إلّا صديقه المخرج الأميركي من أصل إيراني، الذي سيضطلع بإخراج فيلم (2021) بنفس عنوان الرواية، "النمر الأبيض".

ومع عدم التشبيه الأخلاقي بين الكاتب وبطله في الرواية، بالرام حلوائي، إلّا أن الاثنين معاً ضربا ضربة معلم، الأوّل في السلك الأدبي والثاني في حفر فلسفته بوضوح: عليك أن تفكّر بقتل سيّدك.

تبدو الرواية مكتوبةً بقرن فلفل حارّ. تقرؤها وأنت تعرف أنّ خادماً يمكنه أن يقتل سيّده، لكنّ حلوائي لم يرتكب جريمة، بل فعل ما يراه ضرورة لأن يتخلّص الهنديّ - نصف المطبوخ، وصاحب أفكارٍ نصف متشكّلة ونصف مهضومة ونصف مصحّحة - من قدَره الطبقيّ، من الحيوانات الثريّة التي تستبيحه في مدن نصف مخبوزة، بُنيت لناسٍ نصف مخبوزين. كان كلّ ثريّ من هؤلاء له لقب حيوان. أمّا هو، فعليه أن يحلم بأن يكون "النمر الأبيض"، النادر، الذي يظهر مرّة واحدة في كلّ جيل.

كان أدارش غوراف، الشابّ النحيل، ضئيل البنية، الذي لعب دور بالرام حلوائي، اختياراً ممتازاً أصاب فيه مخرج الفيلم. موهبة هذا الممثّل لا قياس لها سوى مشاهدة الفيلم (متوفّر على "نتفليكس")، ومعاينة قدرته في أداء دور الخادم الذليل، وفي الوقت نفسه أدوار السفالة الأخلاقية المقنِعة في تبريرها. إنه يبدو دائماً ضحيّة طبقته الدنيا التي لها من اسمها (حلوائي) أنْ تصنع الحلوى وتلعق الحضيض، وفي ذات الوقت يقطع الخطوات بثبات نحو هدفه، لا بالانتقام على طريقة الأفلام الهندية التجارية، بل بوعي يجعل جريمة قتْل سيّده، سفحاً نحو القمة. لقد كان مدركاً لدوافعه التي تنمو وتتصاعد.

في مسيرة السينما العالمية، لا بدّ من ظهور هذا الطرح المتطرّف بحدود تعبير متفاوتة؛ كان فيلم "جوكر" (2019) مثالاً ساطعاً على العنف الدامي تجاه المجتمع وسلطات مؤسساته، إلّا أن القاتل مريضٌ نفسيّاً. لكنْ لو أخذنا مثالاً عربياً، فإن فيلم "الغول" (1983) ينتهي بقتل أحد رموز سياسة الانفتاح في السبعينيات؛ رجل الأعمال الذي أدّى دوره فريد شوقي. وكان القاتل (أداء عادل إمام) يائساً من وجود أي طيف للعدالة، لذلك شحذ بلطته وخبّأها بين جريدةٍ وكتاب "قدر الإنسان" لأندريه مارلو، وقتل رمز الاستغلال أمام الناس.

بطلٌ يحفر فلسفته بوضوح: عليك أن تفكّر بقتل سيّدك

بين هذين النموذجين تأتي الرواية الهندية لتقدّم أطروحة لا علاقة لها بالمرض النفسي في فيلم "جوكر" ولا اليأس في فيلم "الغول"، وإنْ كانت ممكنةً مقاربةُ أيّ سلوك عنيف بنوازع نفسية. ما يحكيه بالرام هو سردٌ مُحكَم وبنية مضبوطة القياسات، بفلسفة من عمق الخبرة تلخّصها دعوته لموظّفيه قائلاً لهم إنه في "أيّ فيلم هندي تقليديّ، حين يقتل شخصٌ رجلاً ثرياً، فإن الكابوس وشبح القتيل يلاحقانه. هذا لا يحدث عادةً. الكابوس الحقيقي هو أنك لم تقتله".

بهذا المعنى القاسي يشهّر بالرام حلوائي بمجتمع بلاده منذ أوّل سطر. الرواية بمجملها هي عبارة عن إيميلات يرسلها إلى ون جيا باو، رئيس الوزراء الصّيني السابق، الذي سيزور بنغالور، عاصمة البرمجيات و"وادي السيليكون" في الهند، ورمز الاقتصاد الصاعد الذي يمثّل جوهَره ما يُعرف بالتعهيدات الخارجية. وتنبني الحكاية على واقعة حقيقية، وهي زيارة جيا باو للهند في 2005، للاستثمار المشترك بين الصين المتفوّقة في "الهارد وير" والهند المتفوقة في "السوفت وير".

هنا يأخذ الراوي زاويته الحادّة ويعلن أن الفرق بينكم (الصينيين) وبيننا هو أنكم تخلّصتم من العبودية للبريطانيين، ولكنْ لا توجد لديكم انتخابات ولا ديمقراطية، بينما نحن "كانت لدينا ألف طائفة ومصائر مختلفة، أمّا الآن فليس هناك سوى اثنتين: طائفة الناس ذوي الكروش الكبيرة وطائفة الناس ذوي الكروش الضامرة. ليس هناك سوى مصيرين: أن تأكل أو تؤكل"؛ ويضيف: "قد لا تكون لدينا مجارٍ للصرف الصحي ولا ماء للشرب ولا ميداليات أولمبية، ولكنْ بالتأكيد لدينا ديمقراطية".

ويشرح الشاب - الذي لم يقتل سيّده فقط، بل أخذ اسمه وحقيبة أمواله ومشروعه للتعهدات الخارجية في بنغالور - طالباً من رئيس الوزراء الصيني أن يتفهّم رفضه لأنْ يكون خادماً في اقتصاد هنديّ يقوم برمّته على أمانة الخدم. وهذه الأمانة ليست ضمن مناقب الهنديّ، بل بسبب عبودية قفص الدواجن. كل واحد يرى من قفصه مصيرَ دواجن تُذبح، ولا يتحرّك.

منذ أنْ لاحظ الشابّ المُعدَم ابن سيّده الأنيق وخريج أميركا، قرّر أن يكون خادمَه المطيع، قبل أن يُطيح به، متأسّفاً عليه، وهو لا يملك ضمانة مطلقة بأنه سينجو من الملاحقة والقصاص، إلّا أنه يُخبر أخيراً الزعيم الصيني: "لو قبضوا عليّ فإن الأمر يستحقّ ألّا أكون خادماً ولو لدقيقة".

يبقى المخرج رامين بحراني وفياً لرواية صديقه إلى حدّ كبير، ويضيف إلى حيوية الرواية اختياراً موفّقاً لطاقم الممثلين، ويبني السيناريو - الذي رُشّح لجائزة "أوسكار أفضل سيناريو مقتبس" (2021) - من منتصف الرواية، متحرّكاً بمرونة بين المستقبل والماضي، ومجيباً بجدارة عن سؤال "لماذا يحدث هذا؟"، أكثر من احتفاله بسؤال "ماذا سيحدث ومتى؟".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون