بين سنتَي 1865 و1868، عاشت الجزائر، التي كانت قد مرّ ثلاثون عاماً تقريباً على احتلالها من قِبل الفرنسيّين، واحدةً مِن أسوأ الكوارث في تاريخها على الإطلاق؛ إذ شهدت البلاد مجاعةً استمرّت ثلاث سنوات وأودت بحياة أكثر من 500 ألف جزائري، وهو رقمٌ يُمثّل خُمس عدد السكّان الذي لم يكُن، حينها، يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة.
كان الرسّام الفرنسي غوستاف غيوميه (1840 - 1887) قد غادر الجزائر قبل سنةٍ واحدة من اشتداد المجاعة؛ إذ وصَل إليها صدفةً مطلع ستّينيات القرن التاسع عشر بينما كان متّجهاً إلى إيطاليا، فقرّر العودة إليها مُجدّداً عام 1862، وأقام فيها متنقّلاً بين عددٍ من مدنها الصحراوية، مثل المسيلة وبوسعادة وبسكرة والأغواط، حتى عام 1884.
إلى جانب كتاب له بعنوان "لوحاتٌ جزائرية" (صدر عام 1888) جمعت فيه مقالاته التي نقل فيها مشاهداته في البلد الذي كانت تحتلُّه فرنسا، حضرت الجزائرُ في سبعة وأربعين لوحةً تشكيلية رسمها غيوميه في فترات مختلفة، وجسّد فيها مَشاهد من يوميات الجزائريّين في الصحراء، بأسلوب واقعي لا تغيب عنه اللمسة الاستشراقية.
واحدةٌ من أبرزُ تلك اللوحات تحمل عنوان "المجاعة في الجزائر"، وقد رسمها غيوميه عام 1869، بالحجم الطبيعي (قرابة ثلاثة أمتار ونصف على مترين ونصف)، مُستلهماً لوحةَ "مَشاهد الإبادة في سيو" (1824) لمواطنه أوجين دولاكروا (1798 – 1863). وفيها جسَّد مشهداً قاسياً مِن مشاهد المجاعة التي تركها وراءه.
على خلاف معظم لوحاته التي تحتفظ بها متاحف فرنسية، ظلّت "المجاعة في الجزائر" في الجزائر؛ حيثُ احتفظ بها "متحف قسنطينة الوطني". لكنَّ "جمعية أصدقاء متحف الفنّ والتاريخ" في مدينة لا روشال الفرنسية كشفت في 2018 أنَّ اللوحةَ تعرّضت إلى أضرار بالغة؛ حيث اختفى إطارُها، وتمزّق قماشها، وفُقدت قطعةٌ من الرسمة، وظهرت ثنّياتٌ وآثار عليها بسبب الماء والرطوبة، فضلاً عن بعض الاختلالات التي ربّما يكون سبُبها ترميمٌ أُجري عليها.
وقالت الجمعية إنّ غيوميه كان الفنّان الفرنسي الوحيد الذي "جسّد تلك المرحلة المأساوية من تاريخ الاستعمار"، مشيرةً إلى أنّه عرض لوحته في فرنسا لأوّل مرّة عام 1869 "في محاولة منه لاستدعاء تعاطف الرأي العام الفرنسي مع ضحايا الجفاف وسياسة التفقير التي انتهجها الاستعمار الفرنسي".
وكانت الجمعية، حينها، تُحضّر لمعرض استعادي بعنوان "جزائر غوستاف غيوميه" هو الأوّل منذ 1899 (أُقيم ابتداءً من حزيران/ يونيو 2018 في عدد من المدن الفرنسية واستمرّ عاماً كاملاً). وقد أطلقت حملةً عبر الإنترنت بهدف جمع خمسة وعشرين ألف يورو لترميم اللوحة التي أُسندت إلى المختصّة في ترميم الأعمال الفنّية باسكال برينيلي.
أثارت اللوحة أسئلة عن ظروف حفظ الأعمال الفنية في متاحف الجزائر
أثار ما كشفته الجمعية أسئلةً كثيرة في الجزائر عن سبب تكفُّل جمعية فرنسية بجمع التبرُّعات لترميم لوحةٍ تُعدّ ملكاً ثقافياً جزائرياً، وعن ظروف حفظ اللوحات الفنّية في المتاحف الجزائرية، وأيضاً عن ظروف مغادرة اللوحةِ البلادَ، خصوصاً أنّ وزارة الثقافة الجزائرية بدت على غير علم بالقصّة برمّتها.
اللافتُ أنَّه وطيلة السنوات الأربع الماضية، لم تُثَر قضيّة اللوحة مجدّداً في الجزائر، ولم يتساءل أحدٌ عمّا إذا كانت قد عادت أم لا. ومؤخّراً، كشف "متحف قسنطينة" أنّه استعاد اللوحة وشرَعَ بعرضها ابتداءً من الأحد الماضي، لكنّ ذلك لا يُقدّم بالتأكيد تطمينات من المخاوف المتعلّقة بحفظ التراث الثقافي في الجزائر، ولا يُجيب عن الأسئلة التي تدور حولها.