هل سيرى فيلم "العربي بن مهيدي" النور أخيراً؟ تعود فكرة إنجاز عمل سينمائي عن المناضل البارز في الثورة الجزائرية (1954 - 1962) إلى أكثر من خمسة عشر عاماً؛ إذ جرى الحديث عن المشروع لأوّل مرّة عام 2007، ثُمّ في 2012، وكانت الجزائر حينها تحتفل بخمسينية استقلالها. وفي 2015، انطلق تصوير العمل بإدارة المخرج بشير درّايس في "فيلا سيزوني" بالجزائر العاصمة؛ حيث عذّبت السلطاتُ الاستعمارية الفرنسية بن مهيدي (1923 -1957)، وقتلته.
سرعان ما توقّفَ تصوير الشريط، الذي أُنتج ضمن تظاهُرة "قسنطينة عاصمة للثقافة العربية" (2015)، بميزانية قاربت ستّة ملايين يورو، وكان مقرَّراً عرضُه ضمن فعالياتها. أمّا السبب، فهو نفاد الميزانية، بحسب ما أعلنه المخرج حينها. لن تجد المشكلةُ حلّاً إلّا بعد أربع سنوات. في 2018، أعلن درّايس عن أنَّ فيلمه التاريخيَّ بات جاهزاً للعرض. لكنْ، ستظهر مشكلةٌ أُخرى.
فبينما كان يُنتظَر عرضُه، أعلنَت وزارةُ الثقافة، التي مولّت الفيلم بنسبة 40 % (شاركت وزارة المجاهدين بنسبة 29 %، فيما جاءت بقيّة الميزانية من مؤسّسات اقتصادية) عن تشكيل لجنة مكوَّنة مِن مختصّين في الحركة الوطنية "للنظر في مدى مطابقة الفيلم للسيناريو الأصلي وللوقائع التاريخية". وبعدها مباشرةً، أعلن درّايس أنّ وزارة المجاهدين "منعت بثّ أو استغلال الفيلم، قبل أخذ تحفُّظات لجنة المشاهدة بعين الاعتبار".
يُثير الفيلم سجالات حول حدود التمويل والرقابة والفنّ والتاريخ
ووجَّه "المركز الوطني للدراسات والبحوث حول الحركة الوطنية وثورة أوّل نوفمبر"، وهو هيئةٌ تابعةٌ لوزارة المجاهدين، من مهامها متابعةُ إنجاز "الأفلام الثورية"، رسالةً إلى المخرج تتضمّن أربعين ملاحظةً حول ما أسمته "مغالطات تاريخية" في الفيلم، مِن بينها ضرورة التركيز على الكفاح المسلَّح الذي خاضه بن مهيدي، وتعرُّضه للتعذيب، بدل التركيز على الخلافات بين قادة "جبهة التحرير الوطني" (يُصوّر أحد المشاهد خلافاً حادّاً بين بن مهيدي وأحمد بن بلّة في القاهرة).
كان ذلك بدايةً لسجالاتٍ اتّخذت أبعاداً متعدّدة؛ فقد اعتبر درّايس الملاحظات "تدخّلاً رقابياً يُهدّد حرّية الإبداع"، وردّ بالقول إنه "لا وجود لأدلّة على تعرَّض بن مهيدي للتعذيب"، وهو ما أثار انقساماً بين مندّد بالرقابة التي تعرّض لها المُخرج، وبين منتقدٍ يرى أنّ تصريحاته تنسف جدوى إنجاز الفيلم مِن الأساس، وترى أنّ مقاربته تصبُّ في إطار نزعة تحريفية للتاريخ، تتماشى والنزعة النيوكولونيالية.
في حديث سابق إلى "العربي الجديد"، تساءل بشير درّايس عن هويات أعضاء "لجنة المشاهَدة" وعن وزنهم العلميّ ليُقرّروا عرضه من عدمه، مُعبّراً عن استغرابه من عدم حمل التقرير أيّ توقيع، ومُستبعداً الاستجابة على الملاحظات بتغيير مشاهد أو إضافة أوحذف أُخرى، قائلاً: "إن كانت لديهم شجاعة كافية، فليعرضوا الفيلم وليتركوا الحكم الأخير للجمهور؛ فالعمل موجَّه إليه وليس إلى الإدارة"، قبل أن يضيف: "الحلُّ الوحيد للخروج من عنق الزجاجة هو عرض الفيلم على لجنة مستقلّة تتكوّن من مؤرّخين وباحثين معترف بهم".
قد يرى الفيلم النور قريباً؛ إذ أعلن وزير المجاهدين العيد ربيقة، قبل أيام، أنَّ العمل سيُعرض خلال السنة الجارية، بالتزامُن مع الذكرى الستّين للاستقلال، بعد أن أنهت لجنةٌ مشتركةٌ بين وزارتي المجاهدين والثقافة دراسة كلّ التحفظُّات حوله، مضيفاً: "لن يكون هناك تسامح مع المساس بأيّة جزئية تتعلّق بشخصيّة الشهيد العربي بن مهيدي. الحفاظ على الصورة التي يحملها الجزائريّون عنه مسؤولية تاريخية".
لا تعليق من درّايس على الإعلان، وهو ما يُوحي بأنَّ حلَّ "إشكاليات" الفيلم تَقرَّر بشكل أُحادي. وهذا يعني أنّنا على موعد جديد مع سجالات جديدة؛ حدود التمويل والرقابة والفنّ والتاريخ.