صدر مؤخّراً عن "دار رايويلا" كتاب "الديكاميرون الأفريقي"، وهو عمل كان عالم الأنثروبولوجيا الألماني ليو فروبينيوس (برلين 1873 - بيغانزولو/ إيطاليا 1938) قد دوّنه مباشرةً من أفواه الحكّائين والقوّالين الأفريقيّين، أو ما يُطلق عليهم في بلادهم الأصلية لقب "ديالي" و"مابو" و"غريوت"، وأعاد صياغته ميلتون فرنانديز، وهو كاتب وشاعر ومخرج مسرحي من الأوروغواي، مقيم في ميلانو، ويشغل حالياً منصب المدير الفني لـ "مهرجان الأدب" فيها.
يحتوي الكتاب ثلاثاً وثلاثين حكاية تمتد جغرافيتها من دول المغرب العربي، إلى توغو ومالي وبوركينا فاسو، والنوبة وكردفان وجنوب وشرق السودان.
تلك الحكايات التي وُلِدت لتعيش الوقت المحدّد لشفهية الراوي - مع العلم أنه لربما لن يستمع إليها أحد بنفس الطريقة مرّة ثانية في اليوم التالي، أو في قرية مجاورة - أصبحت أدباً مكتوباً، ولعلّها افتقدت عفويتها إلى الأبد، ولكن باستعادتها وجعلها متاحة للجميع، ستكون قادرة على الوصول إلى أماكن وشعوب مختلفة. في كل حكاية من هذه الحكايات، هناك غَلَبَة للشهوة الجنسية كتأكيد للحياة وكعنصر ملموس لا مفرّ منه للوجود، تكتنفُها روح الدعابة التي تتخلّل كلّ نفس.
عالمٌ يسكنه عشاق تعرّضوا لخيانة عشيقاتهم، ملوك شرسون وغدّارون، محاربون ذوو شجاعة صلبة، قطّاع طرق، مهووسون من فرط الشبق الجنسي، مكرُ الغانيات الذي يتفوّق على أعيان المدينة، اللقاء الأول بين رجل ومرأة، وما يواكب ذلك من عواطف مكبوتة، ولهفةٌ لرشف كأس الهوى حتى القطرة الأخيرة. باختصار، بهجةُ الحياة وتعبها، والتصوّرات المتعدّدة لأسطورة فريدة، واستلاب الإنسان أمام ألغاز الحياة.
أصبحت القصص أدباً مكتوباً، وربما فقدت عفويتها إلى الأبد
يُذكر أن هذا الكتاب نُشر لأول مرة في عام 1910، بعنوان "الديكاميرون الأسود. وثائق عن الحب والكوميديا وملاحم أفريقيا الوسطى"، في قواسم مشتركة واضحة مع العالم الذي نقله لنا جوفانّي بوكاتشيو في رائعته الشهيرة "الديكاميرون"، بعد وباء الطاعون الذي فتك بمدينة فلورنسا عام 1348.
ولكن من هو ليو فروبينيوس؟ وهل كان هدفه الوحيد الاهتمام بالثقافة الأفريقية والدفاع عنها حسب المصادر المتعدّدة عن سيرته ومغامراته؟ تقول هذه المصادر إنه كان عالماً إثنولوجياً ساهم، أكثر من أي باحث آخر، في الكشف عن قيمة الثقافات الأفريقية لأوروبا، وذلك من خلال المواد التي جمعها خلال اثنتي عشرة بعثة استكشافية إلى أفريقيا، بين عامي 1904 و1932، عبر أراضي الكونغو - كاساي، في حوض النيجر، وفي منطقة القبائل شمال شرق الجزائر، وفي جبال الأطلس، والسودان الأوسط، وكردفان، وعلى شواطئ البحر الأحمر وفي جنوب أفريقيا.
وتضيف في أماكن أُخرى، أن فروبينيوس كشف بشكل قاطع زيف الصورة الاستعمارية لـ "الأسود المتوحّش"، موضّحاً للأوروبيين تعدّد وثراء الفنون والتقاليد الأفريقية، وذلك من خلال إجراء عملية مسح ودراسة منهجية لأشكال الصخور في الصحراء الكبرى والنوبة وجنوب أفريقيا. وقام أيضاً، إثر ذلك، بنقل النشاط الإبداعي للرمز إلى المستوى التاريخي، أي أنه اعتبر الثقافات القديمة وثقافات من يُسمَّون "البدائيّين" بمثابة ذخيرة واسعة من التجارب، لا يمكن فهمها إلا من خلال اعتبار الرمز عنصراً من عناصر المعرفة المتحركة التي تتجاوز الإنسان وهي المُحدّدُ الأول للحضارة.
بهذا يكون فروبينيوس قد تخطّى مع هذه النظرية المفهوم النمطي السائد عن القارة الأفريقية، في محاولة لتفسير موضوعي للتجربة النفسية الجماعية في علم الأعراق، كما فعل كارل غوستاف يونغ في علم النفس بنظرية اللاوعي الجماعي، حيث نجد أنه أسس في عام 1898 "الأرشيف الأفريقي" في برلين، ونَقَلَ "معهد أبحاث مورفولوجيا الحضارة" إلى ميونخ في عام 1922، ثم إلى فرانكفورت في عام 1935.
في هذه الأثناء، طوَّرَ فروبينيوس نظرياته حول القوانين التي تنظّم تطور الثقافات من خلال أطروحاته، وكذلك المعلومات والاكتشافات ذات القيمة الكبيرة، مثل تلك المتعلّقة بأصول الحضارة المصرية. وفقًا له، فإن تطوّر الحضارات، يتم عبر مراحل متتالية من النمو والنضج والانحلال، أولاً على نحو "حدسي" كما هو الحال عند الأطفال، ثم في شكل "مثالي" كما هو الحال عند اليافعين، وأخيراً "عملي" كما عند البالغين. يسترشد التطوّر التاريخي بالقوى اللاعقلانية التي تنطلق من أعماق البشرية مُسبِّبةً "الإحساس العاطفي".
كرّسَ ليو فروبينيوس عدة سنوات، في بداية القرن العشرين، للبعثات الأنثروبولوجية والأثرية في أكثر الأماكن تنوّعاً في أفريقيا، من فزّان إلى السودان، إلى صحراء كالاهاري، التي أثمرت عن اكتشافات ثمينة، منها أدواتٌ لتأدية طقوس العبادة وأغراض تُستعمل في الحياة اليومية، وكذلك النسخ الأولى من اللوحات الصخرية مجهولة الهوية. ولكن كان كنز القصص الذي جمعه من الحكّائين المحليّين ثميناً بنفس القدر، حيث نشر لاحقاً في اثني عشر مجلداً باسم "أطلانتس"، وهو منجم لا ينضب من الأساطير والحكايات الخرافية. ووضع خلاصة أعماله في كتاب بعنوان "تاريخ الحضارة الأفريقية"، نُشر في عام 1933، ويحتوي على 186 رسماً و50 خارطة.
عملٌ جريء في بنيته النظرية للرؤية الهادفة لنشر الكولتوركرايز - البيئة الثقافية، والتي هي اليوم موضوع مناقشة مرة أُخرى في الأوساط الثقافية - هذا التاريخ هو قبل كل شيء محاولة مستجدة لوضع الخطوط العريضة لمورفولوجيا أوعلم تشكّل القارة، وهي محاولة لا تزال فريدة من نوعها. لذلك ليس من المستغرب أن يكون تشيزارِهْ بافيزي وإلياس كانيتي وجورجيو دي سانتيانا من بين أكثر قرّاء هذا الكتاب اهتماماً وشغفاً.
من جهة أُخرى، كان فروبينيوس شغوفاً بالتعليم الذاتي، وكان دائماً منجذباً بشكل لا يقاوم إلى القارة الأفريقية، والتي بدأ في استكشافها والدفاع عنها في وقت مبكر جداً، حيث أسّسَ أول أرشيف أفريقي في برلين في أوائل العشرينات من عمره. كانت نيّتُه تسليط الضوء على جمال وأهمية الحضارات الأصلية، في جدل مفتوح مع سياسات الدول الأوروبية الأُخرى. كانت هذه سنوات قلب الظلام، عندما كانت الكونغو البلجيكية مُلكيّةً خاصة للملك ليوبولد، وفي "بنين" أبادَ البريطانيون السكان الأصليين بلا رحمة، للقضاء على حضارة عمرها آلاف السنين.
تتاحُ لنا الفرصة لإعادة اكتشاف هذا العمل من خلال الترجمة الإيطالية الأولى لـ "بايديوما Paideuma"، وهو ملخّص موجز لأفكاره، قام بترجمته وتدقيقه لوتشيانو أرتشيللا. لعل مصطلح بايديوما، الذي ابتكره فروبينيوس، ليس مجهولاً تماماً للقارئ المطّلع، فربما يكون قد واجهه في صفحات عزرا باوند، الذي كان معجباً وداعماً كبيراً لعالم الأنثروبولوجيا الألماني، أو في كتابات ويليام بتلر ييتس وغيرهم، الذين كانوا يعتبرون "ليو الأفريقي" (ليو أفريكانوس) شيطانَهم المفضّل. والبايديوما، وفقاً للمؤلف، "هي تركيبة الأفكار، المهيمنة والخلّاقة، لعصر وشعب ما".
لم يكن الدفاع عن الثقافة الأفريقية كلّ ما شغل فروبينيوس
مقتنعاً بصحّة الخرافة والأساطير، اعتبر فروبينيوس الحضارة كائناً حياً، وأمضى سنوات عديدة في جمع القصص الخيالية والحكايات من الصوت الحي لحرّاس تلك المعرفة القديمة، التي تُعدّ تعبيراً عن عالم سحري حيّ، لم يستسغهُ الأوروبيون في البداية، باعتبارها مجرّد تخيلات. لم يكن فروبينيوس يعتقد أن الشعور بالمفيد والعملي هو الذي بدأ "التقدم"، بل بالأحرى الأسطورة، والتي تبيّن للإنسان الطريق الذي يجب أن يسلكه والنماذج التي ينبغي اتباعها.
من كان فروبينيوس إذن؟ من الصعب تحديد ذلك، لأن السمة السيئة السمعة التي رافقت معظم الرحّالة والمستكشفين الأوروبيين، لم تخلُ من التسويغ، أو محاولة التغيير الحاسم في الإحساس بالذنب من مهمتهم الأساسية في إرساء موطئ قدم لمطامع حكوماتهم. بالنسبة لأجهزة المخابرات البريطانية "كان العميل السرّي الأكثر طيشاً في الحرب العالمية الأولى"، نسخة ممسوخة من لورنس العرب الذي حاول بكل الطرق إثارة القبائل العربية ضد البريطانيين لتقويض سيطرتهم على قناة السويس، من خلال مهام رعناء وغير مجدية لم ينجح فيها أبداً، متخفّياً تحت مسمى "البعثة الألمانية للمكتشفات الأثرية في وسط أفريقيا".
هناك أكثر من دليل على تورّطه بأعمال التجسس، منها برقية أرسلها السفير البريطاني في روما إلى وزارة الخارجية في لندن، يذكر فيها أنه ذات ليلة من عام 1915، تسللت حفنة من الأوروبيين متنكّرين بالزي العربي إلى متن السفينة الفرنسية ديساي الراسية في بورسعيد، فعلوا ذلك من خلال المراحيض، "وبعد أن مكثوا في ذلك المكان، تمكّنوا من الوصول إلى السطح العلوي عبر فجوة يصعب ذِكرُها دون اللجوء إلى لغة بذيئة!".
ولكن كيف انتهى بهم المطاف في عنبر تلك السفينة؟ في نهاية عام 1914، بعد استراحة قصيرة في بلده، غادر فروبينيوس برلين مع مجموعة من معاونيه وسافر بالقطار حتى إسطنبول، ومن هناك إلى سورية وفلسطين وشبه الجزيرة العربية، حيث تابع رحلته على البعير مرتدياً ملابس محلية، ووصل مع مرافقيه إلى البحر الأحمر.
لم يكن أي منهم يتكلم اللغة العربية - بالإضافة إلى أن لون بشراتهم كان يتناقض بشكل واضح مع المكان ومع الملابس التي يرتدونها - لذلك لم يستغرق البريطانيون وقتاً طويلاً لكشفهم. وهذا ما أرغمهم على الاختباء - بعد مطاردة يائسة وغوص ليليّ في البحر - في عنبر السفينة حيث تمكّنوا من الإفلات في آخر لحظة من براثن الطاقم، الذي لم يفهم من أين ظهر هؤلاء الأوروبيون ذوو الرائحة الكريهة، ونجحوا بعد أيام بالوصول بسلام إلى ميناء ماساوا الإريتري الذي كان تحت السيطرة الإيطالية آنذاك. بمجرد وصول الأخبار إلى إيطاليا - التي كانت لا تزال محايدة - اندلع النقاش في البرلمان في روما، إلى أن تمكنت المستشارية الألمانية، بمعجزة دبلوماسية، من إعادتهم إلى وطنهم! بعد هزيمة ألمانيا، اتُّهم فروبينيوس بأنه غير عقلاني وشخص إشكاليّ، فهاجر إلى إيطاليا، واستقر في بلدة صغيرة إلى أن غادر الحياة في عام 1938.
* قاص ومترجم سوري مقيم في ميلانو