"الحياة أمامنا": حكاية ثمانين ألف عامل منجَم مغربيّ في فرنسا

07 سبتمبر 2022
عمّال في منجم للفحم بإقليم لورين الفرنسي (شمال شرق) قبل إغلاقه في الثمانينيات (Getty)
+ الخط -

ما يزال عبد السلام كاكاس يتذكّر "رقمه" هذا حتى الآن، رغم مرور ستّة عقود على حمله إياه للمرّة الأولى: 5236. في ثاني يومٍ له في العمل، مُنح الفتى المغربي هذا الرقمَ، ومعه خوذة وَضَوء يوضع على الرأس، مثله مثل آلاف المغربيين الذين استقدمهم الفرنسيّ فيليكس مورا من قرى الأطلس الكبير وأماكن أُخرى من البلاد، للعمل في مناجم فرنسا. 

حتى يصل إلى هذه اللحظة، لحظة البدء فعلياً في العمل، كان على الفتى أن يقطع طريقاً طويلةً تبدأ بفحص جسده، للتأكّد إن كان "قابلاً" للعمل والإنتاجية، من قِبَل مورا ــ الذي كان يطوف المغرب بسيارته بحثاً عن يد عاملة ــ، وتمرّ بالذهاب إلى الدار البيضاء، ومنها بالقارب إلى مرسيليا، ثمّ إلى منجم الفحم شمال فرنسا.

اليوم، يُخبرنا عبد السلام كاكاس قصّته وهو في سنٍّ يتجاوز السبعين، مثله مثل أغلب الرجال المغاربة الذين نشاهدهم في الفيلم الوثائقي "الحياة أمامنا"، الذي تبثّه قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية هذه الأيام. 

الشريط (54 دقيقة، 2021)، الذي أخرجه فريديريك لافون، يروي حكاية بعضٍ من 8 آلاف عامل مغربي قام فيليكس مورا ــ وهو عسكريّ سابق في الجيش الفرنسي ــ باستقدامهم، بين الستينيات والسبعينيات، من المغرب للعمل في مناجم فرنسا بأُجور تقلّ عن أجور أقرانهم من العمّال الأوربيين، ولسدّ نقصٍ في مهنة كان أغلب الشباب الفرنسيين يتجنّبون العمل فيها لصعوبتها وخطورتها. حكايةٌ فيها ما فيها من حُلم بالعثور على عمل، بالهجرة إلى فرنسا ومساعدة العائلة التي بقيت في المغرب، ثم العمل على جلبها إلى فرنسا بحثاً عن حياة أفضل. وفيها ما فيها أيضاً من عذابات وصعوبات ومهانة.

وقت الغداء، كنّا نأكل والفحم يتساقط من حولنا، نأكل خبزاً بالفحم

ذلك أن كثيراً من هؤلاء العمّال كانوا من القُصّر، وبعضهم مرض أو مات بسبب ظروف العمل الصعبة والمؤذية، من استنشاق لهباب الفحم وعملٍ في جوّ بذي حرارة عالية جدّاً. كما أنه كان عليهم أن يجدوا أنفسهم في عالم جديدٍ عليهم، لا يتقنون لغته، ولا يعرفون ثقافته، ولا يحصلون فيه على ما يحصل عليه أقرانهم من حقوق. "خلال وقت الغداء، كنا نأكل والفحم يتساقط من حولنا. تأكل خبزاً بالفحم. كما لو كان الفحم بهاراً على الطعام"، يقول الحسن تيغانمين، الذي تلعب ابنته، عالمة الاجتماع مريم تيغانمين، دوراً أساسياً في هذا الشريط، إلى جانب المخرج.

مريم، التي نسمعها تطرح أسئلة على والدها وعلى غيره من الرجال المغاربة، الأمازيغ، الذين يُقابلهم الفيلم، تقول إنها واحدةٌ من أبناء هذا الجيل، جيل الـ80 ألف مغربيّ الذين استُقدموا للعمل في فرنسا، والذين يُقَدّر عدد عائلاتهم وعائلات أحفادهم اليوم بنحو 600 ألف شخص.

صحيحٌ أن الفيلم يكشف، بالصور والشهادات الحيّة، عن بشاعة الاستغلال الفرنسي لليد العاملة المغربية، من استغلالها جسدياً (أحد المتحدّثين يسعل، منذ ثلاثين عاماً) إلى بخسها حقّها الماديّ، وعدم منحها عقود وضمانات العمل كما باقي الموظّفين الأوروبيين، إلّا أن المخرج اختار عدم الذهاب إلى الإدانة المباشرة، وشاء، بدلاً من ذلك، أن يترك الكلام لـ"أبطال" هذه الحكاية، على ما رؤاهم من اختلاف نسبيّ في النظرة إلى ماضيهم، وإلى طريقة تعامل مورا ــ والسلطات الفرنسية ــ معهم.

المساهمون