في المرّة الأخيرة سافرتُ من تيرانا إلى نيويورك، حيث تبدو الطائرة وكأنها تُقلع من عالم كان حتى 1920 يعتبر ضمن "الشرق الأدنى" لتحطّ في عالم آخر. ولكنّ بين المدينتين روابطَ قد لا تبدو للناظر عند الوهلة الأولى. فكما حدث مع أبناء "الشرق الأدنى"، بدأت الهجرة إلى العالم الجديد في نهاية القرن العشرين، وتركّزت التجمّعات الألبانية في مدن الساحل الشرقي من بوسطن إلى نيويورك. وفي هذه التجمّعات تأسّست روابط وجمعيات أدبية وثقافية وسياسية، ثم تأسّست في نيسان/ إبريل 1912 فدرالية ألبانية للجمعيات باسم "فاترا" (الشعلة)، وأُصدرت جريدة "دييلي" (الشمس) باللغة الألبانية، قبل أن يُعلِن الألبان استقلالهم عن الدولة العثمانية في 28/ 1/ 1912.
في ضاحية برونكس، التي يشعر فيها المرء بأنه لا يزال في تيرانا، بحُكم اللغة والمطاعم التي تحرص على تقديم الوجبات الألبانية، يقع مقرّ "فاترا" ومقرّ صحيفة "دييلي" التي تُعتبَر أقدم جريدة ألبانية لا تزال تصدر، وهي هنا تُماثل "الأهرام" في مصر. في هذه الجريدة التقيتُ رئيس التحرير الجديد، القادم لتوّه من تيرانا، صوقول بايا، الذي حمل معه من تيرانا سخطه على ما يحدث فيها من تشويه، نتيجةً لـ"مافيا الباطون" أو التوحّش العمراني الحديث المتسارع على التراث الثقافي في المدينة، والذي يهدّد أيقونتها: جامع أدهم بك وبرج الساعة، أو مركز تيرانا العثمانية.
وكان بايا قد عبّر عن سخطه هذا في مقالة له بعنوان "تيرانا: مافيا الباطون ومعبد الله"، نشرها في جريدة "دييلي" (14/ 1/ 2021)، ووصل فيها إلى أنّ ما يحدث الآن في تيرانا يفوق ما حدث خلال الحكم الشيوعي بعد "الثورة الثقافية" (1965 ــ 1970) التي أعلنت إلغاء الدين وهدمت الكثير من الجوامع والكنائس التي بُنيت خلال الحكم العثماني الذي دام نحو 500 سنة. ولكن، كما يقول صوقول بايا، لم يتجرّأ نظام أنور خوجا على مسّ أيقونة تيرانا (جامع أدهم بك وبرج الساعة)، بينما الآن "مافيا الباطون" تلتهم كلّ شيء، حتى وصل الدور إلى إيقونة المدينة.
أبراجٌ تستفزّ السكّان الذين لا يصدّقون ما يحدث لمدينتهم
وفي الحقيقة، كان أقصى ما عمله نظام أنور خوجا باسم الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية، تدمير البازار العثماني المقابل لأيقونة تيرانا، وبناء دار للأوبرا على الطراز السوفييتي، ثم إقامة تمثال كبير لستالين على نصب مهيب في جوار جامع أدهم بك الذي أُغلق بحجّة الترميم، وبقي نصب ستالين شامخاً يستقبل الزوّار إلى عام 1968، حين أُزيح ليوضع قربه تمثالٌ أكبَر للقائد العسكري المقاوم للحُكم العثماني إسكندر بك في الذكرى الـ 500 لوفاته، لتصبح الساحة المسمّاة باسمه أيقونة تيرانا في العهد الشيوعي ذي النكهة الألبانية الخاصّة به.
ومع ذلك، بقيت تيرانا محافظة على هويّتها حتى نهاية الحكم الشمولي، حيث ظلّت تتّسم بالبيوت التيرانية المميّزة ذات السقوف القرميدية مع بعض "المساكن الشعبية" على الطراز السوفييتي في بعض أحياء العاصمة. وفي هذا المحيط بقي "فندقُ دايتي"، ذو الطوابق الثلاثة، الذي بناه الإيطاليون خلال احتلالهم لألبانيا (1939 ــ 1943)، الفندقَ المفضّل لضيوف النظام إلى أن قام النظام ببناء "فندق تيرانا الدوليّ" مقابل أيقونة تيرانا الجديدة (تمثال إسكندر بك)، الذي كان وقتها، بطوابقه العشرة، أعلى مبنى في تيرانا. ويتندّر الآن سكّان المدينة بأنه في ذلك الحين كان كلّ مَن يأتي إلى تيرانا لرؤية "ناطحة السحاب" يمدّ عُنقه حتى يرى الطابق الأخير، بينما بَنَت الآن "مافيا الباطون" خلفَه مبنىً يرتفع 32 طابقاً، ليكون "فندق تيرانا الجديد" الذي يكاد يبتلع "فندق تيرانا الدوليّ".
كان يمكن تيرانا القديمة (القصبة) أن تبقى وحدةً عمرانية منسجمة ــ كما هو الأمر مع تونس القديمة ــ وأن يجري التوسّع في الضواحي مع تحديد ضاحية للأبراج. ولكنّ "مافيا الباطون" كشفت عن شهيّتها لابتلاع مركز تيرانا (ساحة إسكندر بك وما يحيط بها)، حيث إن سعر المتر المربّع يفوق بأضعاف ما يمكن أن يكون في الضواحي، ولذلك تطرّفت في بناء أبراج وناطحات سحاب تبدو متنافرة في ارتفاعها وشكلها وملامستها لتراث ثقافي كان يجب الحفاظ عليه أمام إغراءات "مافيا الباطون".
عبثٌ عمراني يتعارض مع سياسة الترويج للسياحة الثقافية
من ذلك، لدينا البرجان اللذان شارفا على الانتهاء وراء جامع أدهم بك وبرج الساعة، بشكلٍ أصبح يستفزّ نظر السائح قبل المواطن التيراني الذي لا يصدّق ما يحدث في المدينة. وما يثير هنا، أن مبنى بلدية تيرانا، التي يفترض أن يوافق رئيسها على أيّ مبنى عمراني جديد، لا يبعد سوى أمتار عن هذا "التوحّش العمراني" الجديد الذي يكاد أن يبتلع أيقونة تيرانا القديمة.
كان هذا التنافر ظاهراً يوم جاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تيرانا في 17 كانون الثاني/ يناير 2022 لافتتاح جامع أدهم بك بعد أن قامت بترميمه "المؤسّسة التركية للتنمية والتطوير" (تيكا). كان الحشد الذي جاء لحضور المناسبة مشدوهاً بأمر آخر: ما حلّ بأيقونة تيرانا في حضن "التوحّش العمراني" الذي قضى على جمالية الانسجام العمراني الذي كان يمتدّ من جامع أدهم بك حتى قلعة تيرانا التي بُنيت خلال العهد العثماني.
كان هذا المشهد يبدو متعارضاً مع سياسة الترويج لـ"السياحة الثقافية" التي عملت عليها ألبانيا وحقّقت فيها نتائج جيّدة في السنوات الأخيرة. فالسيّاح الذين كانوا يأتون إلى ألبانيا ويزورون تيرانا وغيرها، يرغبون في رؤية ما هو مختلف عن الأبراج العمرانية التي تعجّ بها المدن الكبرى، ولذلك كان السيّاح في تيرانا يتمركزون حول ذلك المربّع التراثي الفريد الذي يجمع التراث العثماني والإيطالي والسوفييتي (من دار الأوبرا إلى قلعة تيرانا مروراً بجامع أدهم بك وبرج الساعة والمجمّع الإيطالي، وصولاً إلى "فندق دايتي"). ولكنّ الأبراج الجديدة التي انبثقت بسرعة غريبة تدلّ على قوّة "مافيا الباطون" خربطت هذا المشهد وتركت السؤال مفتوحاً: ما الذي سيبتلعه هذا "التوحّش العمراني" في مركز تيرانا خلال السنوات القادمة؟
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري