في بثٍّ لفضائيّةٍ إخباريّة غربيّة، ورد تقرير عن بيع أمّهاتٍ فقيرات في كمبوديا أطفالهن. عُلّق على الخبر برأيٍ يقول: "إن شعب كمبوديا لا يؤمن بالقِيَم الأخلاقية التي ننظر إليها نحن على أنّها أمور مسلّم بها". أي أنّ الغربيين لا يبيعون أطفالهم، بينما يُعتبَر الأمر مشكلةً متوطّنة في البلدان المتخلّفة.
ليس جديداً ادّعاء مفكّرين ومحلّلين سياسيين ووسائل إعلام بأنّ "الغرب هو الأفضل أخلاقيّاً". وقد يمتدّ الحديث بغطرسة عن تميّز الغربيّين النوعي من ناحية ثقافتهم السياسية والاجتماعية، ما يدعم أسلوب حياة ديمقراطياً تعيش بلدانهم في ظله، هو من دون أيّ شك أفضل بكثير من أي أسلوب حياة آخر في تاريخ البشرية. أمرٌ دفع بعضهم إلى طرح رأيٍ استعاد به العصر الاستعماري، واكتشف حاجة بلداننا إلى التمدّن من جديد، مع أنّ حقائق هذا العصر لا تعترف بهذا الاستنتاج، من شدّة ما هو مؤلم وغير واقعي. لكن، حسب هذا الرأي، ما العمل إذا كان هذا الطريقَ لإدراك حقائق باتت أساسية تتعلّق بالعالم.
المعروف أنّ الغرب جرّب "تمدين" الكثير من شعوب آسيا وأفريقيا، وكانت حسب اعتقادهم تعاني من وضع أخلاقي واجتماعي متخلّفين، ما كلّفهم تضحيات كبيرة لإصلاح أمورهم. وعلى سبيل المثال، تكلّف البريطانيون خلال "تمدين" كينيا مقتل 32 جنديّاً، واضطروا، بالمقابل، إلى قتل عشرة آلاف كيني. هل تمدّنت كينيا، بحسب المنظور الغربي؟
الغرب ليس الأفضل، بل نحن، في أوضاعنا المتردّية، الأسوأ
عقب إحدى المجازر البشعة التي ارتكبها شبّيحة النظام السوري، قام أحد المقاتلين من فصائل المعارضة بأكل كبِد قتيلٍ، قيل إنه من الجيش النظامي، وربما كان شبّيحاً ـ المهمّ أنه إنسان. وصفت الصحافة الغربية ذلك بالفعل الهمجي، الذي أصاب جندياً سوريّاً على يد مسلّح ثائر؛ روّعتهم الوحشية الساديّة التي مارسها ذلك المقاتِل من أجل الحرية، ما أدان الحرية نفسها التي يقاتل من أجلها. ومع أنّ الحادثة مدانة، فقد انسحبت على الثورة أيضاً، وأصبحت هي الأخرى إرهابية. يشير ذلك إلى أنّ الغرب لا يفسّر الأمور بحدودها، أي لا يصف الجريمة بأنّها جريمة بشعة فقط، بل يتوسّع بها، بحيث يصبح الطرفان ــ النظام والمعارضة ــ متساويين، والجرائم متعادلة.
الاستنتاج العملي كان التنصّلَ من محاسبة النظام السوري على المجازر التي أقدم عليها. حتّى أن مجزرة الكيماوي اختُتمت بمساومةٍ عُقدت بين الراعي الروسي والأميركي، شرطيِّ العالَم، أرضتهما على حساب الضحايا، وأُغلق بها ملفّ الكيماوي، من دون عقاب. أمّا البراميل المتفجّرة، وكانت تُلقى على المدنيين يوميّاً طيلة سنوات، فقد جرى تجاهلها، بعدما أثبتت عجزه حتى عن التهديد، وإن سارع إلى إدانة الفصائل الإسلامية لتجاوزاتها غير الإنسانية، مع التأكيد على أنّ الطرفين يمارسان القتل بالتساوي.
هذه الوقائع كانت فرصةً أيضاً للتنويه بأنّ الغربَ المجتمعُ الأفضل إطلاقاً، والأقدر على أن يكون القاضي والحكَم في هذا الإجرام الذي تمارسه شعوب المنطقة في الثورة على دُوَلها الشمولية، لكنّها لم تستدعِ أكثر من التأسّف لما وصلت إليه حال هذه البلدان من دمارٍ وقتل، مع عدم إغفال أنّ جميع البشر يحقّ لهم طلب الحرية والعدالة، وهي اللازمة التي يَطيب للغرب الاعتراف بها بعدما نفضَ يديه من مآسي الآخرين، ولم يَعدم من تقديم حلّ ناجع للكره والظلم والعنف الذين يعصفون بهذه البلدان: الشّفقة، مع التمنيات بإدراك أنّ ما ينقذهم هو الاعتراف بقيمة حياة شخص واحد، كي يُقدّروا ما تعنيه عائلة، وجماعة، وأقلّيّة، وإثنيّة، وعِرق، ودين أو مذهب مختلف، باعتبار أن فرداً واحداً يحيلنا إلى البشرية بأكملها. وبذلك يقدّم الغرب نفسه على أنّه داعية خير وسلام، ونموذج طيّب للفضيلة.
بالعودة إلى الغرب نفسه وتاريخه، نجد أنّ الشّفقة على الشعوب الضالّة كان يجب أن تبدأ بالاعتراف بمواجهةِ حقيقةِ رفضهم التاريخي للتآخي الإنساني؛ حقيقة تبدو أوضح ما تكون في إخضاع شعوب "العالم الثالث" إلى مناطق نفوذ واستغلال وتنافُس ومكاسب، ما أدّى إلى بؤس مروّع في عالَم بات يستحقّ الشفقة فعلاً، وقد كانت من نتائج عدم اعتبارهم متساوين معه.
هذا الهراء من الشفقة لا ينتمي إلى العالَم الحقيقي، بقدر ما ينتسب إلى عالم الدعاية. فالغرب ليس جادّاً في أخلاقيّاته ولا في مبادئه المعلنة، ولا حتّى في تعاطفه، هذا إذا كان التآخي الإنساني حقيقةً يؤمِن بها. ربّما لأنّ الدُّوَل الشمولية تؤدّي وظيفة جوهريّة، بما تختلقه من توازن ــ ما يُعيدنا إلى الشرّ الذي تُمثّله. وبالمقابل، يمثّل الغرب الخير في العالم، بصرف النظر عن التكاليف التي يدفعها البشر الذين يتقاتلون، سواءً على حق أو باطل.
هل الغرب هو الأفضل أخلاقيا؟ لا، الغرب ليس الأفضل، بل نحن ــ في أوضاعنا المتردّية هذه ــ الأسوأ.
* روائي من سورية