لم يتقرّر بعْدُ موعد محدّد لإطلاق تظاهرة "إربد عاصمة الثقافة العربية" لعام 2022، بسبب الموجة الجديدة من فيروس كورونا التي تتصاعد في الأردن منذ الشهر الماضي، والتي يُنتظَر أن تتراجع بعد أن حالتْ الجائحة نفسها دون تنظيم التظاهرة هذا العام.
لكنّ التساؤل الحقيقي يبقى حول وجود إرادة لتحويل مركز ثاني أكبر محافظات البلاد سكّاناً إلى حاضنة لحراك ثقافي مستدام يغيب عن جميع مدن الأطراف قاطبةً. وهل ستُحدِث الميزانية المرصودة، المقدّرة بنحو خمسة ملايين دولار، فارقاً على الأرض، مع تزايد الشكوى حول شُحّ الموارد الثقافية في المدينة؟ أم يبدو ذلك مستحيلاً بسبب تشوّش الرؤى وعدم وضوح الأهداف، وضعف الإدارة والتنظيم، والتي قد يضاف إليها تعامُل بعض الجهات والشخصيات مع الحدث بوصفه احتفاليةً لتوزيع الأعطيات والمكرمات؟
تستطلع "العربي الجديد" آراء بعض الفاعلين الثقافيين في المشهد الإربدي، حول المأمول من التظاهرة تحقيقه، والعوائق التي تواجهها بعد تشكّل جميع اللجان المنظّمة التي يُعاب على بعضها أنها تضمّ ــ في أغلبيّة أعضائها ــ مسؤولين وموظفّين لا يمتلكون معرفةً ثقافية واسعة وذائقة فنية رفيعة تؤهلّهم للتعامل مع حدث كهذا.
نجاح التظاهرة يشترط وجود رؤية واضحة وعملٍ مؤسّسي
يصف الروائي هاشم غرايبة إربد بـ"المدينة البلهاء" التي لا تعتني بمكنوناتها ونتاجها، وهي مجيّرة لصالح عمّان بشكل كبير جدّاً، إذ يمكن إحصاء عدد كبير من الكتّاب والفنانين فيها، إلّا أنها لم تأخذ حقّها كمدينة ثانية أو ثالثة قياساً بمدن أخرى مثل حلب والإسكندرية وطنجة. إذ لا يذكر أحدٌ، بحسب غرايبة، أنها كانت واحدة من أبرز مدن الديكابوليس الرومانية، وأن أربعاً من البلدات المحيطة بها اليوم كانت جزءاً من تحالف هذه المدن، وأن المسعودي صاحب "مروج الذهب" عاش فيها ورحل عنها في القرن العاشر الميلادي، أو أنها كانت همزة الوصل ومحطّة البريد والاتّصالات بين الشام ومصر خلال العصر المملوكي، ووصولاً إلى الشاعر عرار والعديد من رموز الحركة الوطنية الأردنية التي احتضنتهم المدينة التي ظهر فيها أوّل المتعلّمين والمعلّمين في البلاد.
ويشير الروائي الأردني إلى أن كلّ ذلك لا يحظى بأيّ اهتمام رسمي، كما لا توجد هوية ثقافية خاصّة بالمدينة، معتبراً أنّ أهل المدينة مقصّرون بحقّها، فلا يجد مبدعوها أنفسهم إلّا في عمّان، ولم يتمكّن أحدهم من أن يعكس ملامحها في نتاجاته.
المأمول من هذه الاحتفالية، وفق غرايبة، أن تأخذ إربد مكانتها في الإطار العربي مباشرةً، كما نظيراتها من الخليج إلى المحيط، وأن تكون هذه الفلسفة في ذهن جميع القائمين على الثقافة، من أعلى هرم الدولة إلى جميع العاملين في التظاهرة، وألّا تكون مجرّد احتفالية كرنفالية، بل أن تترك بصمة في الثقافة العربية المعاصرة. ولذلك ــ يضيف صاحب "المقامة الرملية": "يجب أن تُقَسّم النشاطات الثقافية إلى قسم مخصّص لفعاليات ثقافية عربية، وقسم أخر يعطي الجمهور حقّه بالاستمتاع بالثقافة والفنون ويتفاعل معها من دون خلط الحابل بالنابل، فيُقَدَّم المحلّي باعتباره عربياً ويُهضَم حقّ العربي.
لا هوية ثقافية خاصة ولا اهتمام كافياً بثاني مدن الأردن
من جهته، يرى عمر الغول، أستاذ لغات الشرق القديم ومدير "مكتبة الحسين بن طلال" في "جامعة اليرموك" التي تقع في قلب المدينة، أن هناك حركة ثقافية معقولة في إربد، لكنها أقلّ ممّا يُرجى. ذلك أن وجود الجامعة فيها، وعدد القرى المحيطة، يستدعي زخماً أكبر في الإنتاج والنوعية، وأن تقوم الجمعيات المحلّية بدورها من دون تعويل على التمويل الحكومي، الذي لا يعفي مسؤولية المؤسسة الرسمية، لكنّ ذلك لا يعني الاعتماد عليها فقط.
ويدعو الباحث في البرديات والخطّ العربي إلى أن يحضر الفكر المؤسّسي والجدّية في العمل اللذان يتطلّبان وقتاً وتراكماً أكبر لحصاد النتائج بعيداً عن الفردية، وأن تحضر رؤية تؤمن بالنهوض بالإنسان وفتح آفاق جديدة أمامه، من تجاهل بعض المحاولات هنا وهناك. ويبيّن الغول أن هناك برنامجاً خاصّاً للمكتبة ضمن فعاليات توزّعتها مع فضاءات ثقافية أخرى في المدينة بناءً على تنسيب المكتب التنفيذي للتظاهرة، وهذا يشكّل فرصة من أجل تعزيز مكانة الجامعات في المشهد الثقافي، والتي تراجعت خلال العقود الأخيرة، مشيراً إلى أن الفعالية مناسَبةٌ لاستعادة العلاقة بين الجامعة والمجتمع المحلّي.
ويلفت إلى أن المكتبة مهّدت للحدث خلال السنتين الماضيتَيْن، من خلال تنظيمها برنامجاً ثقافياً متنوّعاً، في ظلّ وجود المرافق المناسبة والأكاديمييين والطلّاب، وانتظار الناس لتقديم مزيد من النشاطات داخل المكتبة التي يشير إلى أنها ستستضيف "مؤتمر الرواية" الثامن، ونشاطات حول الكتاب، ودورات في الكتابة الإبداعية، وتقوم بتعزيز مقتنياتها من مؤلّفات حول إربد وتاريخها.
أمّا الباحث رياض صبح، فيوضّح أنّ أكبر تحدّيات إربد يتمثّل في إهمال الأماكن التراثية التي تعبّر عن هوية المدينة، والتي كان يمكن لها أن تحتضن فعاليات ثقافية، مذكّراً بأنه جرى طمر البركة الرومانية فيها، والساحات العامة التي كانت تحتضن الحراك السياسي والاجتماعي في زمن مضى، وينسحب الأمر على المعالم الأثرية في بلدتَيْ أم قيس والحصن.
كما يشير إلى شحّ الميزانية المخصّصة للثقافة في محافظة يتجاوز عدد سكّانها مليونَيْ نسمة، إذ لا تكاد تغطّي ميزانية وزارة الثقافة أجور الموظّفين العاملين فيها، ولا يوجد في المدينة سوى القليل من الفضاءات الثقافية ضمن موارد محدودة جدّاً لا تتيح تنظيم فعاليات ضمن حقول فنّية عديدة. وللمفارقة، بحسب قوله، فإن أكبر التجمّعات المنظّمة تتمثّل في مضافات العائلات، سواء في مساحتها أو في إمكانيتها، لكنّ معظمها يتغافل عن الهمّ الثقافي.
ثمة مشاكل لوجستية أخرى ــ يضيف صبح ــ تتعلّق بسوء المواصلات التي تغيب عنها وسائل النقل العام ليلاً، سواء داخل إربد أو ما يربطها مع القرى المحيطة والمدن الأخرى، ما يستدعي الانتباه إلى ضرورة تنظيم أنشطة في مراكز البلدات المحيطة بالمدينة والتي يصل عدد سكّان أكثر من عشرة منها إلى ما بين خمسين ألفاً ومئة وخمسين ألفاً.
ويلفت أيضاً إلى أنه كما تهاجر رؤوس الأموال من إربد وغيرها من المدن الأردنية إلى عمّان، فإن هناك هجرة موازية لأغلب كتّاب وفنّاني المدينة إلى العاصمة، إذ يتفاعلون مع مكان إقامتهم من خلال إصداراتهم وإبداعاتهم التي لم تجد لها دعماً كافياً في الأطراف.
من جهة أخرى، فإنه يُحسَب لإربد وجود جامعتين حكوميّتَيْن واثنتَيْن خاصّتَيْن، فيهما بُنية تحتية من مسارح وقاعات عرض ومحاضرات تناسب تنظيم الفعاليات، والتي يمكن أن تشكّل بديلاً عن ضعف الهيئات الرسمية ومؤسّسسات المجتمع المدني، كما أن ارتفاع نسبة التعليم فيها، قياساً بمدن أردنية أخرى، يشكّل إضافة إلى تنوّعها الاجتماعي والثقافي.