على المرء أن ينتظر ثلاثة أسابيع، تقريباً، للحصول على ورقٍ يُشبه ذلك الذي كان يستخدمه المصريّون القدماء قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام. فبعد قطْف نبات البرديّ من ضفاف النيل، وتقشير جذوعه للإبقاء على اللُّبّ الأبيض فقط، لا بدّ من نقعه في الماء لأسبوعين تقريباً، حتى يتحوّل اللّبُّ إلى ألياف لزجة ومتماسكة تُصَفُّ، بعد ذلك، وتُجدل مع بعضها في شكلٍ مربّع أو مستطيل، وتُضغَط بما يثقلها لمدّة أسبوع، لترقّ وينزّ ماؤها. حينها، فقط، سيكون بإمكاننا الحصول على ورقة صفراء، شديدة الرقّة، هي ورقة البرديّ.
تشرح هذه العمليةَ واحدةٌ من موظّفي "معهد أبو سمبل للبرديات" في الجيزة، بمصر. وتقوم بذلك أمام كاميرا ديفيد سينغتون، الذي يُعرَض فيلمه الوثائقي "أوديسا الكتابة" هذه الأيام، في ثلاثة أجزاء، على قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية.
ومثل مصر، سينتقل المخرج البريطاني بكاميراه إلى مختلف بقاع العالَم، ولا سيّما إلى القسم الشرقي منه، ليقدّم صورةً سينمائية عن تاريخ الكتابة، الذي لا يتشابك فحسب مع تاريخ ابتكارات وتقنيات سهّلت التدوين، مثل الورق والبردي والبرشمان، بل أيضاً مع تاريخ الحضارة والفكر، باعتبار أن "تاريخ الكتابة هو تاريخ الحضارة نفسها"، و"هو أساس الفكر"، و"أكثر ما يجمع بين البشر"، كما يخبرنا أكثر من متحدّثٍ ومتحدّثة في الفيلم، مثل عالمة المصريات، المصرية ياسمين الشاذلي، والخطّاط والمختصّ بعِلم الكتابة، الأميركي برودي نوينشفاندر، وعالِم الآشوريات البريطاني إرفينغ فينكل.
رسم الأصوات ثورةٌ قام بها السومريون قبل الميلاد بـ3000 عام
يلتقط "أوديسا الكتابة" لحظاتٍ مفصلية من هذا التاريخ، الذي يبدأ مع الكتابة بالصوَر على جدران المعابد والقصور والمدافن عند المصريين القدماء، منذ 3700 عام قبل الميلاد (أي قبل 5700 عام من وقتنا هذا)، والذي سيعرف تغيّراً هامّاً بعد عدّة قرون، مع احتياج السومريين، وكذلك المصريين القدماء، إلى تدوين حساباتٍ حول مزروعاتهم ومحاصيلهم، ما سيدفعهم إلى توسيع مضمار الكتابة المعروف حتى الآن، عبر اللجوء إلى رموز لكتابة الأرقام، إلى جانب الصور التي كانت تصوّر الأشياء (مثل القمح الشعير).
على أن الثورة الفعلية ستولَد على يد السومريين، قرابة 3000 قبل الميلاد، وهي الفترة التي يؤرّخ فيها إرفينغ فينكل لبدء رسم الأصوات ــ لا الأشياء فحسب ــ بالرموز والصور. ثورةٌ ستفتح الباب على ولادة اللغة، والمفاهيم، بمعناها الذي نعرفه اليوم.
رغم تسجيل الفيلم تاريخاً شاملاً للكتابة، ورغم إحالته إلى الأوديسا الإغريقية في عنوانه، إلّا أن مادّته تتموضع بشكل أساسيّ في العالَم العربي ومن بعده العالَم الإسلامي، حيث يتنقّل السرد، ومعه الشخصيات التي نُقابلها في الفيلم، بين بلاد الرافدين ومصر، لينتقلوا بعدها إلى سمرقند، وكذلك الصين. أمّا أوروبا، فلن يتوقّف الشريط الوثائقي مطوّلاً عندها إلّا انطلاقاً من اختراع المطبعة على يد يوهان غوتنبرغ، منتصف القرن الخامس عشر.