"أعلام" خير الدين الزركلي: بعيدًا عن إنشائيات المناقب

25 سبتمبر 2022
خير الدين الزركلي، في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

لا شكّ أنّ إشكالية جنس "التراجم والسِّير" تنبع من الاستعارة التي بُنيَ عليها هذا اللّون من الكتابات، فمُصطلح "عَلَم" بجَمعه: "أعلام"، الذي طالما اقترن به، يدُلّ في الأصل على الجَبَل الشاهق الذي يتراءى عن بُعدٍ، وقد استُعير للشخصية المرموقة بجامع الشُّهرة الحاصلة لكليهما. ومن آثار هذه الاستعارة نشأ اقتران آليّ بين الشُّهرة والعِلم أو الفضل، في حين أنّ هذا الاقترانَ غير صحيح دائمًا.

ورغم هذا الغُموض القائم بِأصل المفهوم، تصدّى المؤرّخ والشاعر الشامي خير الدين الزِّركلي (1893 - 1976) لكتابة سِير المشاهير من الكُتّاب والقادة في موسوعةٍ من ثمانية أجزاء، عنونها بـ"الأعلام: قاموسُ تراجِمَ لأشهر الرجال والنساء من العَرب والمُستعربين والمُستشرقين"، ممّا يؤكّد استمرارية المفهوم والجنس الأدبيّ المُسْتَلّ منه.

تعود الجذور الأولى لهذا التصنيف إلى سنة 1912، حيث باشَر الزركلي جمع موادِّه بنِية وضع كتابٍ مدرسيّ، مثل أيّ معجم لغويّ، يضمُّ سيرَ الشخصيات الشهيرة، في تقليد كان يطلق عليه اسم "التراجم"، وهي وصفٌ تمجيدي لسِير المشاهير ومناقبهم. ثمّ ما لبث أن تجمّعت لديه جُذاذات عديدة أصدرها ضمن النّسخة الأولى من هذا العمل سنة 1927، ثمّ أعاد طبعَه بعد ثلاثين عامًا، ثمّ سنة 1969، وقد ناهز الرجل على الثمانين من عمره. حيث قضى الأعوام السابقة في التمحيص والتصحيح وتتبُّع المعلومات عبر الرحلة إلى مظانّ الأصول للتحقُّق مما كَتب عن أربابِ القلم. ثم أعدّ طبعةً رابعة إلا أنّ الأجلَ وافاه قبل صدورها، لتكون جامعةً لمحاسن سابقاتها، متلافيةً لما شابَها من النواقص، مثل الجمع بين أصحاب السِّير وتواقيعهم وخطوطهم، في حين أنّ هذه الأخيرة كانت مُنفصلة في جزء مستقلٍّ في الطبعات الثلاث الأولى. فهذه الموسوعة إذن هي نتاج ستّين عامًا أزْجِيت في وضع سِيَر الأعلام ومتابعتها تهذيبًا وتصحيحًا وتوسُّعًا.

كان الهدف الرئيس من هذا العمل المُضني تلبيةَ حاجة ملحّة إلى "موسوعة" تَنظِم ما تناثر في كُتب التّراجم، مخطوطِها ومطبوعِها، قديمها وحَديثها، بشكل موجَز يغني القارئَ المتعجّل عن الرجوع إلى المُطوّلات.

موسوعة هي نتاج ستّين عامًا من المتابعة والتهذيب والتصحيح

ولعلّ أعسر قضيّة واجَهَتْه هي تحديد مَعايير اختيار "العَلَم" والمفهوم الذي نسنده له. فهل يتّصل بالتأليف أو بتبوُّؤ منصب سياسيّ أو قضائي، أم هو مرتبط بالفنّ والعمران؟ ليس من السهل الإجابة، لأنّ الزركلي ضَمَّن كتابَه هذا كلَّ فئات المشاهير، على اختلاف انتماءاتهم وحقول نشاطهم، فنجد جنبًا إلى جَنبٍ الوزراءَ والصّوفية والفقهاء ورجال السّياسة، فضلاً عن القُضاة والمُفتين، وحتّى "الفضلاء" من ذوي الوجاهة الذين لم يتركوا نصوصًا. كما استدعى عددًا من المستشرقين الذين اشتغلوا على الثقافة العربيّة وأسْدوا "خدماتٍ جليلة" لها، وذلك اعترافًا منه بجميلهم.

وتتمثّل منهجية العمل في ذكر الأعلام مرتّبة أسماؤهم حسب النسق الألفبائي، بعد إزالة اللواحق والسوابق مثل: "أب" و"ابن"، لتيسير البحث عنها في مظانّها، فهو يذكر اسم الشخص ويعقبه بتاريخ الولادة والوفاة حسب التقويمَيْن الهجري والميلاديّ، ثم يردف بعض المعلومات عن نسبه ومَذهبه الفقهي وأهمّ ما ميّز حياتَه، وكلّ ذلك في اختصار شديدٍ، تجنّب بفضله الإنشائيات التي كانت تُغرِق كتبَ التراجم وتفاصيلَ الحياة التي لا مجال من التحقّق من صحّتها. ويَختم المَدخل بذكر ما تركته تلك الشخصيات من أعمال مطبوعة أو مخطوطة، وقد يضيف هوامش وإحالاتٍ فيها مصادر الترجمة، بحيث يشكّل كلّ مدخلٍ تدوينًا متكاملًا يُغني عن المطوّلات، يتّسم تحريره بالاقتصاد والجَفاف.

كما تميّز هذا الكتاب بإثبات خطوط الأعلام المُتَرجَم لهم، حيث تحصّل على العديد من نماذجها فَصوَّرها وضمَّنها تراجمَ الكُتّاب، وقد ساعده في ذلك أصحاب المكتبات الخاصّة والعامّة مشرقًا ومغربًا، وأتاحوا له نوادرها فَوَشَّح عَمله بنماذج نادرةٍ من صور الأعلام وخطوط أياديهم الأصليّة، إلى جانب تواقيع بعض الذين لَقيهم في ترحاله وحتّى لبعض القدامى إن ظَفر بها في المخطوطات أو المكاتيب والرّسائل. وبهذا المعنى، صارت هذه الموسوعة بمثابة متحفٍ مَكتوب/ مقروء يضم بين دفَّتيه بعض الآثار المادّية التابعة للكتاب مثل: الصور والخواتم والطوابع واللوحات والإجازات الأصليّة والبطاقات، في مَعرض آسر لآثار هؤلاء الرّجال والنساء الذين عمروا المَشاهد الثقافيّة العربية طيلة القرون الماضية. وقد علّل هذا المسعى بأنّ التوقيع جزءٌ من شخصية الإنسان "يهبه حياةً أبديّة" وأثرٌ من آثاره المادّيّة التي يجدر الحفاظ عليها ضمن مسار التأريخ.

وشَّح عَمله بنماذج من صور الأعلام وخطوطهم وتواقيعهم

وأمّا مصادر هذه السِّير فمزدوجة: بَعضُها كتُبُ التراجم السابقة الخاصة بكلِّ بلدٍ مثل "شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (1863-1941) الذي أحصى فيه أسماء كلّ علماء تونس، وسائر كتب "الطّبقات" المعروفة. وبعضها الآخر، وهذا ما يُضفي أصالة كبرى على هذا التأليف، استقاه الزركلي من احتكاكه المباشر بهذه الشخصيات وتواصله الفعلي معها عبر اللقاءات والمُراسلات، فضلاً عن امتلاكه في مكتبته الخاصّة للعديد من آثارهم ومُخلّفاتهم، بما في ذلك الوثائق الأصليّة التي صادَفَها طيلة ترحاله وعمله كدبلوماسي، وهو ما يَعني اتّباع مَذهب الشُّمول والاستقصاء قطعًا، مع تخصّص المَوسوعات حَسب المهنة مثلاً، كموسوعات الأطبّاء والموسيقيّين والصحفيين، أو بحسب عِلم من العلوم كالمُحدّثين والفقهاء والمُتكلّمين، وحتّى مبدأ "الرّجال" أو "الطبقات" الذي كان يغطّي البارزينَ في دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، وهذا الشّمول هو ما جعل تعريفاته وتعليقاته مُختصَرَة واضحةً.

تختلف هذه الموسوعة عن غيرها من كُتُب "التّراجم" والطبقات"، بأنّ صاحبَها جَمع فيها بين جزالة الأسلوب الأدبي ودقة التأريخ الوضعي، إلى جانب السّماحة الدبلوماسية التي هيّأت الزركلي للتواصل مع عَشرات الشخصيّات المرموقة، تلك التي أرَّخَ لها وهي حيّة تُرزَق، فأتاحوا له من الوثائق والمراسلات ونوادر القطع ما تمكّن به من تشييد هذا "المتحف". كما تميّزت أيضًا بطول المدّة التي استغرقت صناعَتَها، حيث دامت قرابة الستّين سنةً، أمضى جلّها، بعدَ عمليّة التجميع الأولى، في التدقيق والتصحيح والإضافة.

الدرس المعرفيّ الأهمّ لكتاب "الأعلام" أنّه قَطع مع مفهوم "الطبقات" و"التراجم" التمجيديّة، وأنه أرسى لنموذجٍ من التأريخ الوضعيّ للشّخصيات المؤثّرة التي أسهمت بقلمها وبفعلها في الديناميات الثقافيّة، كما قَطع مع أسلوب الإطناب والتفصيل في الرّوايات، وجلّها متخيّل أسطوريّ البناء، غايته التهويل والتعظيم، حتّى استوت هذه الموسوعة مرجعًا لا غنًى عنه في الاطّلاع على مئات الشّخصيّات التي صنعت الثقافة العربيّة. ولعلّ ويكيبيديا اليوم قد قَتلت هذا النوع من الكتابة الموسوعيّة، فكسدت البضاعة التي يمكن لأحفاد الزّركلي أن يقدّموها للقارئ المعاصر، وهو عَجول قليل التثبّت.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون