"الجزائر عاصمة الثورة": من ذاكرة إيلين مختفي

16 يوليو 2019
(إيلين مختفي)
+ الخط -

لا تزال حروب الجزائر منطويةً على أسرارها. ما يصدُر حولها لا يرفعُ الستار إلّا عن نزر يسير من تعقُّد ظواهرها إبّان حقبة الاستعمار البغيضة. وآخر ما ظهر في هذا المجال نصٌّ يصعب تصنيفه، لوقوعه بين التوثيق والتخييل، بين التأريخ والسيرة الذاتية... كتاب "الجزائر عاصمة الثورة: من فانون إلى الفهود السود" (دار لافبريك الفرنسية، 2019) لـ إيلين مُختفي، ذات الواحد والتسعين ربيعاً. صدر الكتاب أوّلاً بالإنكليزية في الولايات المتّحدة منذ سنةٍ، ولاقى هناك رواجاً منقطع النظير. وبما أنّها تتقن اللسان الفرنسي، فقد تولّت بنفسها عملية ترجمته إلى الفرنسية.

خلال 256 صفحة، تروي الكاتبة الأميركية كيف وُلدت سنة 1928 في مدينة نيويورك، في كنف عائلة، ذات أصول يهودية، تنتمي إلى الطبقات الشعبية الكادحة. ومنذُ طفولتها الأولى، ذاقت مرارةَ التمييز العنصري والمعاداة، وأدركت هشاشة أوضاع المضطهدين. ووَعت، منذ نعومة أظفارها، ضرورة المشاركة في الكفاح ضدّ الاستعمار.

وسريعاً ما حملتها رغبتُها في الكفاح على مغادرة بلدها سنة 1951، لتعيش سنواتٍ في باريس وتلتقي هنالك بمثقّفين سحرتهم أفكار الثورة، مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، فتشبّعت بالفكر الثوري وأتقنت الفرنسية. وانضمت، منذ ربيعها الثاني والعشرين، إلى حركات شبابية تنشد السلام والعدالة في العالم. ومن باريس "هاجرت" إلى الجزائر حيث قضت اثنتي عشرة سنة من حياتها مشتغلةً في الصحافة والترجمة والتمثيل الدبلوماسي.

وهناكَ تعرّفت أيضاً على رفيق دربها مُختار مختفي (رحل سنة 2015) وتزوّجت منه، وكان وقتها عضواً في منظّمة "جبهة التحرير الوطني الجزائري"، قبل أن يصبح كاتباً شهيراً. وهكذا، عاصرت هذه الكاتبة اللانمطية أهمّ الفترات الساخنة بُعيد حرب الجزائر ونَقلت تفاصيل ما جرى من الأحداث أثناء مُصاحبتها لأعضاء الحركات التحرُّرية الأممية الذين هاجروا بدورهم إلى الجزائر، الأمر الذي جعل منها "أرض الثورة وميقاتها".

يعيدنا هذا النص - السيرة الذاتية، بما فيه من تفاصيل شيّقة، إلى قلب الفَوران الثوري العالمي، إبان مرحلة الكفاح المسلَّح ضدّ الاستعمار الفرنسي والإنكليزي ونضال "العالم الثالث" ضد التمييز العنصري والاستعباد والكراهية بكافة أشكالها. فقد جَهدت إيلين مختفي، تُحرّكها طوباويّة الثورة والرغبة في تغيير العالم، في جعل الكفاح الأممي معركَتَها الكبرى، حتى لا يظلّ النضال رهين قومية ضيّقة أو منطقة جغرافية محدودة.

في فصول هذا الكتاب، تروي كيف انضمّت، في فرنسا، إلى الأوساط الطلّابية في السوربون ومدرسة الفنون الجميلة. وكيف اعتنقت، بين أروقتها، قضية استقلال الجزائر وتبنّتها قلباً وقالباً، فصادقت الثوّار وساعدتهم بقلمها ولسانها، ثم كيف حلّت، سنة 1962، بأرض الجزائر، التي وصفتها حينذاك بكونها "عاصمة العالم الثالث".

وبين هيئاتها الفتية، ابتدأت مسيرَتها الثقافية أيضاً، ومن ذلك أنها شاركت، سنة 1969، في تنظيم أوّل مهرجان لمناصرة أفريقيا، واحتضنت حركات التحرُّر في دول أفريقية عديدة مثل أنغولا والموزمبيق وجنوب أفريقيا. كما أنها شاركت في الوفد الدبلوماسي الجزائري الذي زار نيويورك ليُسمع صوت بلده على منابر منظّمة الأمم المتحدة ويُعرّف بنضالات "جبهة التحرير الوطني".

ومن جهة ثانية، خصّصت الكاتبة صفحات مطوّلة في كتابها لنشاطات حركة "بلاك بنثر" التي وجدت في العاصمة الجزائرية ملاذاً لها، بعد المجيء السرّي لأعضائها. ففي ثنايا الكتاب، تقصّ إيلين مختفي شبكة العلاقات النضالية التي جمعتها بهؤلاء المناضلين وما كان بينهم وبين الثوّار العرب من تحالفات ومناكفات. فهي تقصّ كيف صاحبت العديد من الوجوه الثورية العالمية؛ مثل فرانتز فانون، وكليفر، وفيديل كاسترو، وهواري بومدين، وأحمد بن بلة، وغيرهم كثيرون. واجتهدت في رسم شهاداتٍ موثّقة، بل لوحة متكاملة، عن تعقُّد علاقات القوى والإغراء والتكامل وحتى الأنانية، بين هؤلاء الثوريّين الذين شُغفوا بالقضية الجزائرية.

وتروي مختفي، بحُرقة كبيرة، كيف اضطرّت إلى مغادرة هذا البلد سنة 1974. فتركته دون حقد ولا ضغينة. بل إنها حبّرت عنه ما يشبه تصريحًا بالحب قائلةً: "قِصَّتي مع الجزائر لن تنتهي أبداً. فقد استولت على ذاتي طيلة هذه السنوات وكنتُ من ضمن الحالمين الذين توجّهوا إليها من أجل بناء عالم جديد".

وهكذا، فليس هذا النص مجرّد سيرةٍ ذاتية، تستعيد حياة امرأة أجنبية في وسط رجالي غريب، وليست فقط سرداً خطّياً لتفاصيل هذه المغامرة، بل هي أيضاً طريقة وجدانية في إعادة النظر إلى مفهوم "النضال الأممي" وتعرية لما يحكم اللحظة الثورية من رهاناتٍ ومحاذير وآفاق. فقد رافقت هذه المرأة نشأة الجمهورية الجزائرية، في مراحلها الأولى، حين كانت تبحث عن هويتها الأصلية بعد أن طُمست طيلة قرن وثلاثة عقود. وتابعت عبر مقالاتها الصحافية وترجماتها ولقاءاتها هذه الاستعادة البطيئة للهوية السليبة، وما أعقبها من ارتدادات وعراقيل.

وأمّا صياغة هذا الكتاب ففي منزلةٍ وُسطى بين السرد التاريخي الذي يفترض أن يكون صادقاً وبين السيرة الذاتية التي حيكت بأسلوب أدبي، فيه من حرارة الوجدان ومن متانة الإقناع. فالكتاب عبارةٌ عن كنزٍ من المعلومات التاريخية النفيسة، ولكنه يُقرأ كما لو كان رواية. وهو يتضمّن صوراً حقيقية تعود بنا إلى تلك المرحلة الحرجة، تَغلي بأحداثها. أسلوب السرد فيه مختصر سلسٌ. جُمله قصيرةٌ، عادةً ما توازي الخطيّة السردية في تصاعدها، مع بعض المقاطع الموجزة، إمّا عودةً إلى الوراء أو استشرافاً لما سيحدث. فرنسيته عذبة. كانت قد تمكّنت من دقائقها خلال سنوات إقامتها بباريس والجزائر.

ولئن بدت إيلين مختفي منشدّة إلى هذا البلد، الذي مُنعت من زيارته لأربعٍ وأربعين سنةً لأسباب غير مقنعة تتّصل بخيارات سياسية واهية، فلأنها عاشت أفضل أيام عمرها في شوارعه وبين ذويه ومُهاجريه. ولذلك، تكتب بحرقة وقناعة وحنين. فرغم سنواتها التسعين، لا تزال هذه الثورية عاشقةً لهذا البلد، متابعةً لأدقّ تفاصيله، محافظةً عليها في طراوتها.

ولم تؤجّل الكتابة عن تجربتها، إلى هذه السنّ المتقدمة، هرباً، وإنما تهيُّباً من مواجهة لحظات حاسمة انتقشت في وجدانها الأعمق. كانت كلمة السر التي شرعت لها هذا العمل الأدبي وساعدتها على كسر رعب الصفحة البيضاء، هو اللجوء إلى ضمير المتكلّم "أنا". وهو ما سمح لها بالعود إلى ذاتها، للحديث عنها وعمّا عاشته في حِلّها وترحالها بين نيويورك وباريس والجزائر، وما عاينته وعانته في مصاحبة كبار الثوريّين في القرن العشرين.

ربطت مختفي، في سلاسة وذكاء، عناصرَ الحسّ الثوري، تلك التي حَكمت الماضي وهذه التي انبجست في الحاضر. كأنّ الثورة قدرٌ لا يُهرب منه. هي المحرك الرئيس للتاريخ في كل فتراته. ولا بد من الإصغاء إلى إيقاعها. أصغت إليه وعادت إلى الجزائر مؤخّراً، لتُقدّم للمتظاهرين وصيةً نفيسة حول العناصر الضرورية لثورة ناجحة: "لا بد من فكرة قوية جداً. لا بد من رفاقٍ عديدين يمكن التعويل عليهم. لا بد من حماسة شديدة وإيمان كامل بالفكرة. أملي كبير فيكم. ها أنا أشبك أصابعي وأحبس أنفاسي". لم يَطل بها حبسُ الأنفاس لأنّ الحراك الجزائري حصلَ، منذ أشهر، وأبهرَ العالم بصدق الإيمان وشدة الحماس وبرفاقٍ يُعوّل عليهم.

المساهمون