"تعليم فاشل، تربية فاشلة": محاولة رثاء

05 فبراير 2019
("سقراط وتلاميذه" من مخطوطة لكتاب "مختار الحكم ومحاسن الكلم")
+ الخط -

تتمثل طرافة كتاب "تعليم فاشل، تربية فاشلة"، للكاتب اللبناني نمر منصور فريحة، (دار الجديد، بيروت 2019)، في انتمائه إلى جنس أدبيّ - فكريّ قلقٍ. فهو لا يندرج ضمن المعالجة التاريخية التي ترصد أطوار التربية وتحوّلاتها في العالم العربي وتتبع آثارها عبر تعاقب الأجيال. وليس هو بالبحث البيداغوجي (التربوي) الصِّرف، الذي يَقف على المشكلات التي تعترض مَسار التلقين والتكوين ونقل المعارف. وليس هو بالإنشاء الإبداعي الذي يستعيد تَجربة ذاتية خَاضها المؤلف، باعتباره أستاذاً ومنظراً ومديراً في مجال التعليم. فالكتاب كلّ هذا وغيرُه.

ولعلّ العنوان الفرعي، الذي أضافه الكاتب، يساعد كثيراً في تبيّن الوجهة التي سينتهجها في الصياغة والتحليل: "مرثاةُ التعليم والتربية في لبنان والعالم العربي". مما يؤكد أنّ فريحة سيرثي هنا حالة التعليم ويترحّم على ما كان له من نبيل الشمائل. تدلّ هذه الصورة على حَجم المعضلات التي يمرّ بها هذا القطاع الذي وُضع بين الارتجال السياسي والارتِهان الاقتصادي، ولا سيما في عصر الرقمنة الذي وكأنه يسدّد إليه رصاصة الرحمة.

من الناحية الشكلية، ينتمي الكتاب إلى ما يُطلق عليه باللغة الفرنسية Essai، وفي الحقيقة، لا تتوفر الضاد على ترجَمة دقيقة لهذا المُصطلح الدال على جنسٍ من القول ذي النزعة الفكرية. فغالباً ما نستعيده بمقابله الحرفي "محاولة"، بما هي مَقالة مطوّلة، تَتناول موضوعاً واحداً من خلال مقاربة تمزج بين التوصيف الموضوعي والإشارات الذاتية، مع أنها تتوسل بنظام برهنة متكامل.

وأما موضوع هذه "المحاولة" فمشاكل التربية والتعليم في لبنان وفي سائر أقطار العالم العربي ضمن علاقاتها المتشابكة بالأنظمة السياسية الحاكمة وبنظرتها إلى المسار التربوي-التعليمي عبر الموازنات المخصّصة لها وعبر التدخل المباشر وغير المباشر في المضامين والمقرّرات، وكذلك عبر المنافذ المِهنية والاقتصادية التي تفتحها أمام (أو تغلقها دون) الحَاصلين على الشهادات العليا.

كما يقدّم الكتاب عرضاً يكاد يكون شاملاً لكافة أطراف العملية التربوية من أساتذة وإدارة وطلابٍ علاوة على التأثير العالمي، ولاسيما الفرنسي والأميركي، الذي بات يشكل نوعاً من الضغط يدعو العرب إلى اللهاث وراءَ مناهجهم وإصلاحاتهم بقطع النظر عن الخصائص الثقافية التي تميّزنا عن غيرنا.

لأجل هذه الغاية، قسَّم فريحة كتابه إلى ستةَ عَشرَ مقالاً قصيراً، ولكنها ذات وحدة عضوية واضحة، تناول من خلالها مَسائلَ تَربوية واجتماعية، وثيقة الصلة بنقل المعارف وتدريب الفرد وإنشاء المواطن. فقد استهل هذه المحاولة بالتفريق الجدلي بين مَسَارَيْ التربية والتعليم، واللذين غالباً ما يخلط الناس بينهما. ثم وصف الأنظمة التربوية السائدة في العالم العربي، منذ استقلال دوله إلى اليَوم، وتعرّض إلى الموقع الذي تحتله وزارات التربية ضمن الأنظمة السياسية، وخصّص بعدها فصولاً لصورة هذا القطاع لدى الرأي العام المحلي وفي التقارير الدولية والمؤتمرات، فضلاً عن وصف القطاع التعليمي الخاص وواقع الطلبة والمعلمين. وركّز بعدها على مظاهر فشل المدرسة وأسبابه، وهي وثيقة الصلة بالمناهج والموازنات والإرادة السياسية. هذا، ولم يهمل الباحث اللبناني، في النهاية، إبداء بعض الآراء الإصلاحية لتحسين الفعل التربوي وابتعاث المدرسة الناجحة.

ويمكن القول إنّ هذا الكتاب يهتمّ بأطراف العملية التربوية الثلاثة الأساسية: الأستاذ- الطالب- المضمون، بالإضافة إلى الإطار السياسي الأعم التي تتفاعل فيه هذه الأطراف. وقد استند الكاتب إلى تَجربته الذاتية الطويلة، في لبنان وعمان وستانفرد (أميركا)، من أجل تَشخيص الهنات التي تتعلّق بكل واحدةٍ منها، مما جعل هذه المحاولة على قصرها شاملةً لكل مظاهر "الفشل" التي تعتور مساري التعليم والتربية.

ولا تَهدف هذه الفصول، كما صرّح الكاتب نفسه، إلى الانتقاد السلبي للتعليم بقدر ما تهدف "إلى التسبّب في صدمة لدى المسؤول والمواطن العادي بهذا الواقع غير السليم". فقد أراد فريحة من محاولته هذه إطلاق صيحة قوية تضع اليد على مكامن الجُرح المثخن في الجسد التربوي، وتؤكد أنّ اكتساب المهارات اللغوية والمعرفية، كائناً ما كان قطاعُها، لا يتمثل في مجرّد حشو ذهن الطالب بمضامين مجرّدة، بل يقوم على تنشئته طبقاً لمجموعة من المبادئ والقيم التي تخدم المجتمع والوطن والإنسانية جمعاء.

وقد شدّتنا، في هذا الكتاب، الفقرات الخاصة بتعليم اللغة العربية في عصرنا بعد أن باتت الضاد فريسة نزعات متضاربة كعزوف الطلبة عن الفصحى باستنقاصها أو التذرّع بصعوبتها، وضعف مستوى الأساتذة وغلبة اللهجات المحلية، واستنساخ برامج في تدريس اللغات ربما لا تتلاءم مع طبيعة لغتنا، فضلاً عن غياب الأبحاث النظرية التي تهتم ببيداغوجيا هذه اللغة، مقارنةً بالكم الهائل من الدراسات التي تُعنى باللغات الأجنبية.

هذا واعتمد الباحث التربوي، في نسج أطروحاته، على المقارنات، السلبية والإيجابية، التي يعقدها بين واقع التعليم والمتعلمين في الوطن العربي وفي سائر أقطار العالم. فتارة يستعيد النموذج الأميركي وتارة الفرنسي وفي مناسبات أخرى يقترح إطلالة على التجربة اليابانية أو الكورية الجنوبية، في سبيل إيضاح مكامن الخلل التي يعاني منها المسار التربوي في بلداننا.

وخلاصة رأيه أنّ الطالب العربي لا يقل ذكاءً عن تِربه الأجنبي، ولكن المكانة التي توليها حكومات كل دولةٍ وظروفها الاقتصادية ومسارها السياسي هي التي تتدخّل في صنع الفرق بين هذا المتخرّج وذاك، وفي تحديد نوعية الكفاءات التي يتحصّل عليها كل واحدٍ منهما.

يختم فريحة الكتابَ بقولةٍ هي عصارة استنتاجاته وتجاربه: "إن الدولة التي تضع التربية في أسفل لائحة اهتماماتها، يصبح التخلّف من أهم إنجازاتها". وهو ما يشي بالارتهان الكلي بين الدولة والتعليم وتوقف الثاني على الأولى وخياراتها وقدرتها ومكانتها بَين الأمم. كما يربط بين التقدم، وصِنوه التخلف، وما تبذله الدّولة من الموازنات للنهوض بهذا القطاع أو بالعكس إهمالاً له.

وقد يتعجّب القارئ من غلبة النفَس التشاؤمي على هذه "المحاولة"، فلم تَخلُ كلماته من السخرية اللاذعة والانتقاد المرير فضلاً عن شيء من التهويل. ويبقى هذا حق رجل تربية قضى عقوداً طويلةً في هذا الميدان. وفي كل الأحوال، يظل الكاتب متناسقاً مع نفسه وخصوصاً مع العنوان الذي ارتضاه لوصف الواقع، فقد أجراه كله على مقولة الفَشل، ثم على الارتباط العضوي بين فشل التعليم، بوصفه محتوى معرفياً، وبين التربية بوصفها نقلاً للقيم.

وهكذا يتضح أنَّ جنس "المحاولة"، الذي اختاره فريحة، يتناسب مع التطرّق الجدّي الملتزم لهذا الموضوع. فلا الدراسات التاريخية ولا التربوية الصرفة بنافعة في مقاربة هذا القطاع الحسّاس الذي باتت تتنازعه اقتضاءات السوق وواجبات المعرفة. وهو ما يتطلّب مثل هذا التحليل، ولا بأس من تسميته بالمَرثاة، لأنّ واقع التعليم في عالمنا العربي أشبه بحالة الوفاة السريرية، والتي لا نقدّر أنه من الممكن الخروج منها دون تيقّظ المشرفين على أمانة نقل المعارف والقيم بين الأجيال.

المساهمون