صدر قديماً: "قضية الشعر الجديد".. نغمة يألفها القارئ

19 يناير 2019
رمسيس يونان/ مصر
+ الخط -

تناول الناقد المصري محمد النويهي (1917 - 1980) في كتابه "قضية الشعر الجديد" الصادر عام 1964، مسألتين مهمّتين، الأولى هي أنه شعر يقوم على التفعيلة الواحدة، ولا يتقيّد بعدد محدّد من التفاعيل في كل سطر، والثانية أنه يقترب من لغة الكلام الحية التي يتحدّث بها الناس في حياتهم اليومية.

ومع أن المسألة الأولى كانت قيد التداول، إذ تناولها من قبل أحمد زكي أبو شادي في كتابه "قضية الشعر المعاصر"، حين دفع بأفضلية قصيدة النثر على قصيدة التفعيلة عام 1959، وتناولتها نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" الصادر عام 1962، دافعةً بضرورة الحفاظ على "التفعيلة" ولكن بانتظام يظل قريباً من نظام الشطرَين التقليدي، إلّا أن أهمّيتها لم تكن بأهمية المسألة الثانية، فهذه الأخيرة كانت في ذلك الزمن استثنائية ولم يسبق أن تناولها النقد العربي بالوضوح الذي منحها إياه النويهي، أي بالحديث عن علاقة اللغة الشعرية بالحياة اليومية وإيقاعاتها، أو ما أُطلق عليه "عودة الشعر إلى سرّ حيويته، وهو الاقتراب من لغة الكلام التي ينطق بها أبناء الأمّة".

وتأكيداً أو تدليلاً على سلامة هذا المنطق، نجد المؤلّف يعود إلى الوراء، إلى عصر غارق في القدم يُسمى تقليدياً العصر الجاهلي، فيحلّل سطوراً شعرية تبدو للوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن كل ما يمكن تصوّر أنه لغة حياة يومية، ويكشف فيها عن نغمة مألوفة لأي إنسان في واقعه.

وبهذا يقيم دعامة تؤيّد ما يذهب إليه في الباب الأول من أبواب الكتاب، "الشعر ولغة الكلام"؛ فيدعو إلى أن تقترب لغة الشعر من لغة الحديث، من الكلام الطبيعي الحي الذي يتكلّم به الناس في واقع حياتهم، وتبعاً لذلك يدعو إلى تغيير الأشكال الشعرية بشكل مستمر، لأن هذا التغيير الثاني ينبع بالضرورة "من التغيّر المستمر الذي يطرأ على لغة الكلام، وهو تغيير تصبح فيه لغة الشعر التقليدية منقطعة عن لغة الكلام الطبيعي، وكذلك يؤدّي هذا التغيير نفسه بالأشكال الشعرية القديمة إلى مرحلة لا تعود فيها صالحة لحمل اللغة الجديدة بما فيها من جديد الإيقاع والنغم وجديد الفكر والإحساس".

اللافت للنظر أن منطلق هذا الكشف كان وعيه بما دعاه "مذهباً" للشاعر الإنكليزي الأميركي ت. س. إليوت، في شعره ونقده معاً. ورأى أنه جدير بالاهتمام و"أقرب إلى أن يفيد منه شعرنا ونقدنا على حد سواء". يقوم هذا المذهب كما فهمه، "على نبذ الأسلوب الشعري المصطنع، وإيثاره الاقتراب من لغة الكلام الطبيعي، ودعوته إلى أن يتغيّر أسلوب الشعر وتتغيّر أشكاله تغيُّراً مستمراً حتى تلاحق ما يطرأ على لغة الكلام من تغيير".

يقول النويهي: "هذه هي الناحية الخصبة حقّاً في مذهبه (إليوت) الشعري، بل هي التي أفاد منها شعراؤنا الجدد فائدة قيّمة"، وهذا هو السبب الذي جعله يضعها نقطة بداية في كتابه هذا. وبالفعل، من يرجع إلى العمل بعد ما يقارب نصف قرن على صدوره، يرى في هذه النقطة جوهر ما قدّمه النويهي. وتزداد أهمية هذه المسألة واستثنائيتها في ما يليها من استكمالٍ لجهة التأكيد على أن "موسيقى الشعر يجب أن تكون موسيقى موجودة بالقوة (مضمّنة) في الحديث العادي لعصرها، وواجب الشاعر أن يستخدم الكلام الذي يجده من حوله والذي يألفه أكبر ألفة".

بعد هذا المدخل، وتحليل علاقة الشعر بلغة الكلام، وتقديم مثال من الشعر الجاهلي الذي يعتبر أن موسيقاه الحية هي موسيقى الحديث العادي ذاته، وبحث علاقة الشعر بتجارب الحياة اليومية، والدعوة إلى استخلاص الروائع الحية من التراث الأدبي البعيدة عن الخطابية المصطنعة، ينتقل النويهي في الباب الثاني إلى قضية الشكل الجديد، فيتطرّق إلى عيوب الشكل القديم التي أصبحت معروفة، ويجزم بأن "المضمون الجديد لا يمكن وضعه بتمام جدّته في الشكل القديم مهما يكن الشاعر قديراً".

وحين يصل إلى موضوع مزايا الشكل الجديد، يقرّر ببساطة أن "مجرّد الجدّة ميزة تُحسب له"؛ فهو لم يعد يرتبط بمعان مكرّرة وتراكيب مألوفة ابتذلتها كثرة الاستعمال. ثم إن الشكل الجديد "أخفّ جرساً وأخفى موسيقية وأقل دوياً وضجيجاً".

وفي هذا السياق، يتطرّق إلى اللغة الحية في الشكل الجديد، وإلى الوحدة العضوية، وأخطار الشكل الجديد المتمثّلة في سهولته الظاهرة، وبالتالي تسهيل دخول المتطفّلين عليه، وهي قضايا كثُر تناولها في أكثر من ندوة وصحيفة وكتاب وبأقلام غالبية من تناولوا الشعر الجديد تحت هذا المسمّى أو ذاك، أي سواء كانت التسمية الشعر الجديد، كما اقترح النويهي، أو الشعر الحر كما رأت نازك الملائكة، أو المرسل والمنسرح كما اقترح آخرون في أربعينيات القرن الماضي، أو المنطلق كما سيختار النويهي ذاته في ختام كتابه.

وفي هذا الباب لفتةٌ لا نظنّ أن أحداً سبق أو تابع النويهي فيها، وهي اعتقاده أن للشكل الجديد صلاحية تتمثّل في نقل ما استوعبه الشاعر من التراث الغربي "وتمكينه للشعراء من تقليد نغم الشعر الأوروبي، ووضع أعمالهم داخل تراث أوسع"، بالإضافة إلى أنه اعتبر أن "هذه ميزة عظيمة"، لأنها توسيع لآفاق الشاعر وإخراج له من أسر معانيه المحدودة.

مستقبل الشعر سيكون موضوع الباب الثالث والأخير، وفيه اقتراحه الشهير بجعل الأساس الإيقاعي للشعر العربي ما يُعرف باسم "النبر" في العروض الإنكليزي. يشرح قائلاً: "إن النظام النبري الذي يوجد في الشعر الإنكليزي لا يقوم على العدد المضبوط من الحروف، واختلاف نوعها بين متحرّك وساكن، وترتيبها في مقاطع تختلف في الطول والقصر، بل يقوم على المقطع الكامل نفسه، وعلى مقدار النبر أو الضغط الذي يوقعه جهاز النطق عليه حين ينطق به، فتترتّب هذه المقاطع بحسب الضغط الواقع عليها في نمط من أنماط الترتيب". ويرى في هذا نظاماً أكثر مرونة ومطاوعة، وأقل انضباطاً وصرامة".

ويستكمل هذا الباب بنقد أطروحات كتاب "قضايا الشعر المعاصر" لنازك الملائكة، وخاصّة تأكيدها على السمة العروضية للشعر الجديد، الذي اعتبره خطأ أساسياً في تشخيص قضية الشعر الجديد. ثم عاد تحت عنوان "طريق التطوير" إلى التشديد على ضرورة الأخذ بالنبر الإيقاعي، وطرح مسألة الصراع بين عشّاق القديم وأنصار الجديد في مقالة سريعة، وهنا يُؤخذ عليه أنه تناول هذه المسألة في نطاق ضيّق، ولم يتجاوزه إلى النطاق العربي الأوسع، أيّ ظَل موضع اهتمامه ما يُطرح في الأوساط الأدبية المصرية من دون اهتمام بما قد يكون آفاقاً أوسع وأغنى في الأوساط الأدبية العربية الأخرى.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسالك محمد النويهي
عُرف محمد النويهي، أساساً، كأحد ألمع الوجوه الأكاديمية في مصر والبلاد العربية، ضمن التخصّصات الأدبية؛ فبعد حصوله على دكتوراه من "معهد الدراسات الشرقية والأفريقية" في لندن سنة 1942، شغل مناصب أكاديمية عدّة، منها التدريس في المعهد نفسه الذي تخرّج منه، وترؤُّسه قسم العربية في جامعة الخرطوم وفي "الجامعة الأميركية" بالقاهرة. من أعماله: "ثقافة الناقد الأدبي"، و"نحو ثورة في الفكر الديني".

المساهمون