رواية بوليسية أميركية... فيلم للكوميدي الفرنسي فيرنانديل... مقتطف من "اعترافات" القدّيس أوغسطين... هذه ليست أحجية نقرأها في صحيفة قديمة، بل جزءٌ من قائمة طويلة لما تأثّر به الكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913 - 1960)، في روايته "الغريب" (1942)، حسب ما تذكره الباحثة في الدراسات الفرنسية في "جامعة يال" الأميركية، أليس كابلن، في كتابها "بحثاً عن الغريب" (En Quête de L’Etranger)، والذي يُمكن قراءته، في لعبة لغوية، "تحقيق الغريب".
صدر الكتاب بالإنكليزية في 2016. وحديثاً صدر بالفرنسية عن "منشورات البرزخ" في الجزائر، بترجمة باتريك هيرسان. وفيه، تعود كابلن إلى واحدة من أكثر روايات القرن العشرين البارزة انتشاراً، محاولةً إعادة رسم لحظة ولادتها، بالاستناد إلى مصادر متعدّدة؛ حيث سافرت إلى فرنسا والجزائر عدّة مرّات، لتخرج بقراءة مغايرة لها، بعدما انحسرت قراءة "الغريب"، خصوصاً خلال العقود الأخيرة، في المقاربات ما بعد الكولونيالية، استناداً إلى أفكار إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية".
أشياءٌ كثيرة تجمعها المؤلّفة بين معطيات وأحداث تلك الحقبة، ويوميات كامو وأرشيفه. كمن يفكُّ عُقداً قديمة ويتبع الحبال حيث رُبِطَت. تنطلق كابلن من البدايات: حيّ بلكور في الجزائر العاصمة، حيثُ يعيش الفتى، الذي تخرّج حديثاً من "الليسيه" فقيراً، يتيم الأب، مع والدته التي لا تسمع جيّداً وتستعمل قاموساً لا تتجاوز مفرداته أربعمائة كلمة. كامو العشريني ينخرط في الحزب الشيوعي، هو كاتب مسرحيات وراقص جيّد، يطبع عند صديقه الناشر الشاب، إدمون شارلو، نصوصاً فلسفية وتأمّلية حول بعض الأساطير الإغريقية والشواطئ الجزائرية، قبل أن يرتبط بزوجته الأولى التي تنقله من أسفل العاصمة إلى أعاليها؛ درب سي براهيم في حي حيدرة الراقي، قبل أن يكتشف إدمانها على المخدّرات وخياناتها المتكرّرة.
ترسم كابلن صورةً عن جزائر الثلاثينيات، ومن ضمنها حياة الشاب الفرنسي بين غرفة استأجرها وسط المدينة، وبيوت الأصدقاء؛ مثل "الدار أمام العالم"، ذلك البيت البورجوازي الأناركي الذي يحتضن أصحابُه كامو في حي تيلملي، ويمنحونه أمسيات وأحاديث جميلة فيه، وعلاقات غرامية عابرة. جزائر تقول عنها كابلن إنها تُشبه الشمس والظلّ؛ حيثُ حياة مستعمِرين تحت الشمس، وحياة بائسة للجزائريين/ الأهالي في الظل والعفونة. بينهما، يتنقل كامو ويكتب قليلاً في الصحافة، ويعمل على رواية "الموت السعيد" التي يتراجع عن نشرها عملاً بنصيحة أستاذه جون غرونييه. ولكن أيضاً، هنالك الكتابة اليومية الدؤوبة: يوميات وتأمّلات وشذرات يجمعها كامو بدأب.
الاكتشاف الآخر في هذا الكتاب هو شخصية باسكال بِيا. شاعر وبائع كُتب ومُزوِّر قصائد وصانع دائرة معارف للأدب الإيروتيكي الفرنسي، صحافي شجاع وكاتب عمود لامع، تصفه كابلن بأن له رأس ورقبة سلحفاة، طويل مثل ساعي بريد، ابن عائلة بورجوازية ومُنظِّر أدبي عظيم؛ حيث أصدر كُتباً عديدة عن شعراء وكتّاب فرنسيّين مثل بودلير وأبولينير وسيلين.
التقى كامو بـ بِيا في الجزائر، عندما جاء الأخير ليُطلق صحيفة "الجزائر الجمهورية"، فتلقَى منه مساعدةً في خطواته الأولى في الصحافة؛ حيث سيُرسله بِيا، كل أسبوع، إلى محكمة الجزائر ليُتابع أحدث القضايا التي تشغل الرأي العام.
في تلك القاعة، سيسمع كامو أغرب الحوارات حول العقيدة والإلحاد، بين قضاة مسيحيّين ومتّهمين جزائريّين مسلمين. على مدى فصلٍ كامل، تتابع كابلن أرشيف مقالات كامو في "آلجي ريبيبليكان"، وتلتقط جُمله الأدبية التي يختم بها تقاريره عن سير العدالة الفرنسية.
في الفترة نفسها، سيكتشف كامو "ساعي البريد يضرب الجرس مرّتَين" لـ جيمس م. مكَين؛ رواية أميركية بوليسية عن خيانة زوجية وجريمة تطال الزوج، وسيُرافقه أمران من هذه القراءة: الزوج الذي يُشار، غالباً، إلى أصوله اليونانية رغم أنه أميركي وصاحب تجارة في البلد، والثاني هو مونولوغ العاشق - القاتل قبل أن يجري إعدامه. ففي حين جرت مقارنة "عربي" كامو بـ "أسود" فوكنر، تأتي كابلن لتُغيّر المُعطيات وتجعل كامو ناقلاً لصورة مجتمع عنصري ومستعمر ضدّ العربي/ الجزائري؛ فـ "كامو هو في الأوّل والأخير كاتب، ولا يُمكننا خلط صوته وصوت شخصياته"، تقول كابلن خلال تقديم كتابها في الجزائر مؤخّراً.
ثم هناك القدّيس أوغسطين الذي كتب، في اعترافاته، أن أوّل ما قام به بعد أن رحلت والدتُه هو السباحة، تماماً مثل ميرسو بطل "الغريب". تضيف كابلن إلى هذا ملاحظات ويوميات كامو بعد مشاهدته فيلماً للكوميدي الفرنسي فيرنانديل، وهو ما سيصير دليلاً في الرواية على لا مبالاة البطل بوفاة والدته؛ حيث سيستغرب القاضي كيف يُمكن لشخص أن يذهب لمشاهدة فيلم كوميدي في السينما، بُعيد وفاة والدته.
الأمر البارز والجديد في قصّة باسكال بِيا، بالنسبة إلى قرّاء سيرة كامو، هو مساعدته واحتضانه موهبة هذا الأخير. ففي كلّ سير كامو، دائماً ما نقرأ اسم رجل واحد: جون غرونييه، أستاذ الفلسفة الذي اكتشف كامو وشجّعه على الكتابة منذ البداية. لكن كابلن تُخبرنا أن غرونييه كان، أيضاً، سبباً في عدم نشره كامو روايته الأولى، بل إنه كتب إليه رسالة بعد قراءة مخطوط "الغريب" بأنها رواية كُتِبت بتسرّع. غير أن كامو كان قد قرّر أن يتحرّر أخيراً من قيد أستاذه ويمضي في مشروع نشر الرواية.
هنا يبرز دور بِيا مجدّداً، إذ استدعى كلّ معارفه وشبكته حول دار "غاليمار" الفرنسية، كي يدعموا نشر رواية هذا الشاب الآتي من خلف البحر. في الرسائل التي تصله نقرأ اقتراحات لإجراء تعديلات وآراء حول المخطوط، بينما يطرح بعضها الآخر مواضيع طريفة؛ مثل طلب مالرو (المتخفّي في منزل في الجنوب الفرنسي) من كامو إذا كان بإمكانه إرسال الورق اللازم للطباعة، لأن فرنسا تشهد أزمة ورق بسبب الحرب، ثم طلبه زربيّتين تقليديّتين من مدينة تلمسان.
راسل بِيا صديقه القديم مالرو، الروائي الفرنسي الذي سيصير لاحقاً وزير ثقافة في حكومة شارل ديغول، وبعث إليه بالمخطوط وحوّل كل ملاحظاته الإيجابية إلى كامو، ومنها نصيحته التركيز على مشهد القتل؛ حيث طلب من الكاتب أن "يُقوّي حدّة الشمس ولمعانها على المعدن وتأثيرها على الراوي/ القاتل ميرسو".
لعلّ أبرز ما في الكتاب، هو إضاءته على قصّة "العربي"، بطل "الغريب" الذي ظلّ بلا اسم. فبعد سنوات من البحث في أرشيف الجرائد الفرنسية التي كانت تصدر في مدينة وهران (غربي الجزائر)، وقعت كابلن على جواب للسؤال الذي خلق أسطورة كامو ودمّرها عند الكثيرين: من هو العربي؟ ولماذا بقي بلا اسم؟
في زاوية "الاعتداءات" من صحيفة "صدى وهران"، لسنة 1939، وجدت كابلن خبراً عن شجار وقع في أحد شواطئ وهران بين يهودي اسمه راوول بن سوسان (فرنسي من أصل جزائري، محمي بجنسيته الفرنسية كما قالت) و"المسمّى" قدّور بطويل، البالغ من العمر 19 عاماً. سبب الشجار هو النساء؛ حيث كان قدّور "العربي" يصاحب فتاةً فرنسية ويذهب معها للرقص والتسكّع في مناطق البيض المستعمِرين، وكان يحمل معه سكّيناً في جيبه دائماً.
لكن قدّور لا يشبه أبداً الصورة التي رسمها النقّاد عن "العربي"، خصوصاً رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية، وهي بذلك صورة عربي لم يُسمّه كامو لأنه استعماري وعنصري ويرفض وجوده. قدّور لم يكن من كائنات الظلّ، بل كان ينتمي إلى عائلة ميسورة سُلِبت أملاكها، تعيش في عين الترك في وهران، وكان يتحدّث أربع لغات ويحمل شهادة دراسات ابتدائية، ويساعد والده في الحقل والتجارة، ويخرج مع فتاة فرنسية تُدعى سوزي.
تقول كابلن خلال تقديمها الكتاب في الجزائر العاصمة: "عندما كتب كامو "العربي"، كان بذلك يعكس مجتمعاً عنصرياً استعمارياً بأكمله، بدءاً بالجريدة التي استعملت عبارة "المسمّى"، وتضيف: "لا يجب أن ننسى أن الكاتب لا يُحاسَب على أحداث رواياته ولا يجب أيضاً خلطها مع قناعاته السياسية".
نقرأ في "البحث عن الغريب" عن مصادفات وأقدار صاغت حياة وأسطورة كامو؛ مثل التحاقه بـ باسكال بِيا للعمل في صحيفة "لو باريسيان" خلال فترة حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان، قبل أن يتمّ إيقافها، ويضيع كامو في قرية صغيرة شمال غرب فرنسا، ويلتحق بالمقاومة في ساعاتها الأخيرة. ولكن هذا لن يمنعه من أن يصير "صوت المقاومة" بعد التحرير، ويتحوّل إلى روائي مشهور عالمياً بعد الترجمة الأميركية، وصحافيّاً لامعاً ومسموع الصوت في صحيفة بِيا دائماً "Combats".
كامو الذي التحق بالمقاومة من دون حماس، وجد نفسه في نيويورك يحاضر أمام الطلبة الذين جعلوا من روايته - ومن سجائره ومعطفه الأسود أيضاً- "رمزاً للوجودية"، وهو ما سيُعلّق عليه لاحقاً بالقول: "صرتُ رمزاً للوجودية، لأن الصحافة أرادت ذلك.
"بحثاً عن الغريب" هو أيضاً كتاب عن المرض والفقر كعراقيل ودوافع، في الوقت نفسه، للكتابة: قصّة السل الذي تبع كامو منذ صغره، وعطّله دائماً عن الكتابة، وجعله يغالبه لتصحيح مسودّات "الغريب". هو كتابٌ عن الوحدة أيضاً؛ إذ تتبع كابلن كل لحظات الوحدة التي أحاطت بالرجل، وسحبته تارة إلى غرفة فندق فقير بـ مونمارتر (باريس) ليكتب روايته، وتارة إلى امرأة شاركها حياته وجعلت منه نسخة ثانية لا تقلّ شبحية عن غريبه الأول.