كثيراً ما أخذت العلمانية في تطبيقاتها مُنعطفاً جعلها في صراع دائم مع الدين. خلال القرن العشرين، وفي السعي المُتواصل نحو التقدم والحداثة ستُصبح العلمانية إيديولوجية للهيمنة، لا سيما مع اعتبارها سيرورة كونية ستُزيح في نهاية المطاف الدين عن تسيير الشأن العام.
لقد أدت هذه الثُنائية المُختلقة علمانية/ دين إلى مزيد من انفصال المفهومين مع تعاقب الأجيال، بل وجعلهما منظومتين طبيعيتين، تتشكلان بحتمية تتّجه بالتاريخ نحو هذه القطيعة، لتصير معه العلمانية مُرتبطة بعدد من القيم، من قبيل التسامح والعدالة والعقلانية والمصلحة وغيرها؛ في الوقت نفسه الذي نُظر للدين باعتباره نقيض النظرية العلمانية وخصمها الدائم.
كتاب "العلمانية وصناعة الدين" الصادر حديثاً عن "الشبكة العربية" بترجمة حسن احجيج، لا ينطلق من هذه المُسلَّمة. إذ يسعى درسلر ومانداير مُحرّرا هذا العمل إلى تفكيك هذه الثنائية وإعادة فهم العلاقة بينها، من خلال الاعتماد على إطار نظري جديد، يجعل من الدين عمليَّة مُوجَّهة ومُسيَّسة "بوصفها الطريقة التي يتم بها تشكيل بعض الظواهر الاجتماعية وإعادة تشكيلها في خطاب الدين أو الأديان العالمية، بعبارة أخرى، يحيل المفهوم إلى تجسيد بعض الأفكار والتشكيلات الاجتماعية والممارسات ومأسستها على أنها دينية بالمعنى الاصطلاحي الغربي للكلمة، ويتم ذلك بإلحاقها بنظام معرفي خاص وبتدابيره السياسية والثقافية والفلسفية والتاريخية".
يبدو إذاً الهدف من هذا الكتاب -الذي يتكون من اثنتي عشرة مساهمة لدارسين متخصّصين في علم الاجتماع الديني والدراسات الثقافية-، مُحاولة لفهم مُختلف التضمينات السياسية والمعرفية لتشكُّل الخطاب العلماني والديني، ودراسته في سياقات اجتماعية وتاريخية مختلفة تنتمي إلى المرحلة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وذلك من خلال تأطيره بمفهوم "صناعة الدين"، الذي يسمح بتفكيك الحدود المُتوهمة وإثبات التداخل بين الخطابين -العلماني والديني؛ مع التركيز في مُختلف الفصول على عواقب تبنّي النُخب غير الغربية للنموذج الغربي عن الدين والعلمانية.
يسمح هذا الكتاب بالتنبيه إلى مدى خطورة جعل مفهوم الدين ذا طابع كوني. فمن جهة، يُعدّ الدين نفسه مفهوماً إشكالياً يختلف من سياق لآخر، ومُحاولة تعميم مفهوم واحد ينهل من التصورات الغربية، هو إقصاء لمفاهيم أخرى عن الدين، منها من لم يعرف نفس مسارات التجربة الغربية؛ ومن جهة أخرى، فإنَّ عدم الوعي بآلية صناعة الدين يُغذّي الحضور المُستمر لفكرة الثنوية التي تأخذ أبعاداً سياسية خطيرة في تأجيج العنف والحرب، إذ يتم تصوير الدين كمُقابل للعلمانية، وفي صراع دائم معها.
يستطيع القارئ أن يقف مع كل فصول الكتاب على وجه من أوجه نقد النظرية العلمانية المُستوحاة من عصر التنوير، حيث تطرح كل دراسة أسئلة على الأفكار المُسبقة بشأن الحدود بين الدين والعلمانية؛ معتمدة في ذلك على النظريات الاجتماعية ما بعد الاستعمارية وما بعد البنيوية، خاصة تلك التي تبلورتْ مع ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وطلال أسد. علاوة على ذلك، تحتوي مقدّمة المُحرّرين المطولة على نقاش نظري مفيد ومُهم بشأن الأسس الفلسفية للهيمنة المعرفية (من كانط إلى هابرماس) التي أنتجتْ ثنائية الدين/ العلمانية، وأضفتْ عليها طابعاً كونياً عالمياً بعد أن أخرجتها من سياق المسيحية الغربية.
إنَّ التحليلات الواردة في الكتاب لآلية صناعة الدين، بالإمكان عرضها في ثلاثة مستويات مُختلفة.
يتمثَّل المُستوى الأول في صناعة الدين من فوق، وهي استراتيجية تسعى من خلالها السلطة المُهيمنة للدولة عبر مؤسساتها وخطابها القانوني إلى إعادة الدين إلى مواقع القوة بشكل يجعله أداة لصناع القرار، وإضفاء الشرعية على نظام الحُكم. ومن ذلك محاولة إعادة بناء الإسلام المُطبّقة في البلدان العربية تحت وصاية الإدارة الأميركية منذ عهد بوش الابن، بطريقة لا تشكّل تهديداً للمصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم.
وهي حالة مُهمّة لنموذج الهيمنة العلمانية الليبرالية على الدين، والتي تؤدي بدورها إلى صناعة دين وتقاليد دينية، واحتوائها داخل هياكل اجتماعية وسياسية، بشكل يجعلها خالية من أي نزوع سياسي أو قدرة على التغيير؛ وإنْ كان نموذج الهيمنة الأميركية لم يتمّ التطرّق إليه إلا بشكل عرضي، فإنَّ بعض المُساهمات ركَّزتْ على آلية الصناعة من فوق، من خلال دراستها لحالة الهند (الفصل 3) والتركية (الفصل 9) وبورما (الفصل 11)؛ وهي في المُجمل تُؤكّد أنَّ صناعة الدين من فوق لا تهدف إلى إزالته من المجال العام، بل تُحاول جعله مصدراً لإضفاء الشرعية على هيمنة الدولة العلمانية.
أما المستوى الثاني فهو صناعة الدين من تحت، وهو أمر يُشير إلى مُختلف استراتيجيات المجموعات المُهمّشة أو التابعة في توظيفها للعمانية والدين من أجل التعبير عن حاجاتها وتطلعاتها؛ والمطالبة بحقوقها في مواجهة المجموعات المُهيمِنة. وعادة ما يتم توظيف خطاب التحرّر والمقاومة لإثبات وجودها (الفصلين 8 و10).
في حين يُشير المستوى الثالث إلى صناعة الدين التي تتمّ من الخارج، في إشارة إلى الخطابات العلمية والأكاديمية التي تبرّر أحد النوعين الأوّلين. وعلى الرغم من أن الوعي بتواطؤ الأوساط الأكاديمية قد ازداد بعد الدراسة المُهمّة التي قدَّمها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، إلا أنَّ خطاب النزعة الأورو-مركزية وحمولاتها السياسية لا يزال مؤثراً في عدد من الجامعات، خاصّة المرتبط منها بدراسة الدين؛ لذلك فإنَّ الكتاب هو أيضاً مُساهمة في كشف التحيّز الغربي للمفكّرين والنُخب السياسية، الذي يكمن وراء الخطابات العلمانية عن الأديان في المجتمعات الحديثة.
ويُمكن في هذا الصدد الإحالة إلى الفصل السابع بما أنَّه يتناول قضية لها علاقة بالسياق الإسلامي؛ فقد تناولت روزماري هيكس قضية "الدين المقارن وتأثير الحرب الباردة في تحوّل التصوف الهندي-الفارسي إلى حداثة إسلامية ليبرالية"، مُعتمدة في ذلك على آلية صناعة الدين في الأوساط الأكاديمية الغربية على أساس المصالح السياسية والدينية، وقد ركَّزت في دراستها على الخطاب الأكاديمي المتأثّر بكتابات ويلفريد سميث، الذي جعل من التصوّف الفارسي-الهندي ممارسة مثالية للإسلام المُعتدل، ولم ينشأ هذا المفهوم من تطوّرات سياقيّة خاصّة فقط، بل نجح من خلال مصالح سياسية والتورّط الأميركي في "الشرق الأوسط"، في تشكيل مقولات فلسفية وأطر عرقية ومسلّمات استراتيجية قامتْ عليها المشاريع اللاحقة.
بشكل عام، يسعى هذا الكتاب إلى دراسة تحوّل مفاهيم وممارسات دينية في الغرب المسيحي إلى مفاهيم عامّة وكونية؛ وهو بذلك رؤية جديدة داخل المحيط الأكاديمي تطمح إلى كشف العلاقات المتشابكة بين الدين والعلمانية من خلال صياغة حديثة لمفهوم "صناعة الدين".
ويُساهم كل فصل في الكتاب بدراسة حالة خاصّة، بشكل مُستفيض واستقصائي، لذلك فإنَّ القارئ غير المُعتاد على مثل هذه الدراسات سواء في جانبها النظري الذي يعتمد عن النظريات الاجتماعية ما بعد البنيوية، أو في جانبها التطبيقي الذي يستند على دراسات إمبريقية، قد يجد بعض الصعوبة في مجاراة الكُتّاب. مع ذلك، فإنَّ العمل يُعدّ إضافة نوعية في الدراسات التي تتناول العلاقة بين العلمانية والدين، ومُساهمة قيّمة في حقل علم الاجتماع الديني والدراسات الثقافية.