لمّا شرع الطبّ يفكّر

13 مارس 2018
(من ملصق تظاهرة استعادية لفوكو)
+ الخط -

ضمن سلسلة "ترجمان"، صدر مؤخراً كتاب "ولادة الطب السريري" لميشيل فوكو بترجمة إياس حسن عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". كتاب ورغم أنه صدر منذ 1963، فإنه لم يصل إلى العربية إلا منذ أسابيع. هنا مقطع من الكتاب.


للوقوف على طفرة الخطاب لما حصلت، يجب، بلا شك، مساءلة شيء آخر غير محتواه التيماتي أو طرائقه المنطقية، وينبغي التوجّه إلى هذه المنطقة حيث لم يكن قد حصل فصلٌ بين "الأشياء" و"الكلمات"، وحيث كانت لا تزال، في صعيد اللغة، طريقةُ الرؤية وطريقةُ القول أمراً واحداً.

ينبغي إعادة تفحّص التوزيع الأصلي للمرئي ولغير المرئي من باب أنهما مرتبطان بالاختلاف بين ما يُعلَن عنه وما يسكت عنه: ولسوف يظهر عندئذ، في صورة وحيدة، تمفصل اللغة الطبية مع موضوعها.

أما الأولية فهي غير قائمة لمن لا يطرح على نفسه سؤالاً ارتجاعياً؛ وحدها البنية المنطوقة للمدرَك، هذا الحيّز الممتلئ الذي تأخذ اللغة من جوفه مداها ومقدارَها، تستحق أن تُعلَن في الضوء المحايد عن قصد؛ يجب أن نضع أنفسنا، ونبقى لمرة واحدة، في المستوى الأساسي لـ الموضعة المكانية ولـ التعبير اللفظي المتعلق بما هو مرضي، هناك حيث تولد وتستغرق في التأمل المعاينةُ الثرثارة التي يلقيها الطبيب على قلب الأشياء المسموم.

حدّد الطبُ الحديث بنفسه تاريخَ ميلاده في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر. فلما شرع يفكر في وضعه، اكتشف أصل صفته الوضعية لدى عودةٍ إلى المدرَك بتجرده المُجدي، بعيداً عن أي نظرية.

وفي الحقيقة إن هذه الأمبيريقية المفترَضة لا تستند إلى إعادة اكتشاف قيم المرئي المطلقة، ولا تعزى إلى التخلي المحسوم عن المنظومات وأوهامها، إنما إلى إعادة تنظيم لهذا الفضاء-الحيز المتبدّي والسري الذي انفتح حالما انشغلت المعاينة، لألف عام، بمعاناة البشر.

ولم يعد إحياءُ الإدراك الطبي، أو الإضاءةُ الحية للألوان والأشياء تحت معاينة الأطباء السريريين الأوائل مجرّدَ أسطورة؛ ففي بداية القرن التاسع عشر وصف الأطباء ما بقي على مدى قرون دون عتبة ما يقبل الرؤية والإفصاح énonçable؛ لكن لا يعني ذلك أنهم عادوا إلى الإدراك الحسي بعد استغراقهم في التأمل فترة طويلة، أو أنهم باتوا يصغون إلى العقل أفضل من إصغائهم إلى التخيل؛ بل المسألة تكمن في أن علاقةَ المرئي بالمخفي، اللازمة لكل معرفة ملموسة، بدلت بنيتها وأظهرت أمام المعاينة وضمن اللغة ما كان دون ميدانهم وأبعد منه.

لقد انعقد بين الكلمات والأشياء ارتباط جديد، يدعو إلى أن ترى وأن تروي، أحياناً ضمن خطاب "ساذج" تماما حتى أنه يبدو وكأنه يعود إلى مستوى من العقلانية أكثر قِدما، كما لو كان الأمر يتعلق بعودة إلى معاينة هي في النهاية مبكرة.

المساهمون