الغنوشي نجم السياسة... الإخواني المطارد!
فهل ستؤثر هذه الحملات في الغنوشي، أم انّها ستجعله أقوى، كما صرّح الناطق الرسمي باسم حركة النهضة عماد الخميري؟
لقد عاش الغنوشي، نجم السياسة في تونس، طول حياته مطاردا، وأصبح له، كما صرّح ذات مرّة، "جلد تمساح" يقيه من كل الطعنات الأيديولوجيّة التي توجّه أولا وأخيرا ضدّ حزبه، باعتباره ذراع الإخوان المسلمين في تونس، وكأن الإخوان نقيصة وعيب!
الغنّوشي تتلمذ في مدارس عدّة، من المدرسة العروبية إلى مدرسة حسن البنّا. ومدرسة حسن البنّا هي مدرسة العذابات الكبرى ومدرسة الصبر الأكبر. ولم تشهد حركة أو حزب مثلما شهدت حركة الإخوان المسلمين من آلام. طعنها أغلب القادة العرب في الخاصرة، وبشتّى أنواع العذاب. وانقلاب السيسي على حكم الإخوان في مصر كان الجريمة الأكبر في هذا القرن، فلا جريمة أكبر من حرق الأبرياء وهم أحياء، وجرفهم بالجرافات وكأنّهم حجارة أو أدنى، ولا جريمة أنذل من القتل، خارج القانون، على الهويّة، وعلى تهم التعاطف مع الضحايا.
والغنوشي، هو نفسه، من ذاك الجيل الذي تربّى في محرقة بن علي، بتهمة الإخوان، بن علي الذي جرّ الآلاف إلى السجون، وشرّد آلافا أخرى، وقتل مئات، لا يزال مصير الكثير منهم مجهولا. كل هذه المحن جعلت الغنوشي يمضي في الطريق الذي رسم، نحو الأهداف التي حددها هو وجماعته، مهما كانت المعوّقات.
والآلام عند الإخوان المسلمين كأنّها قدر نبّه إليه حسن البنا أبناء حركته في رسائله. وهي دعوة لكي يتعاملوا مع ما سيعترضهم بكل صبر. فطريق النصر طويل وشاق. قال البنّا في أحد رسائله إلى إخوانه، منذ عشرات السنين: "سيقف جهلة الشعب بحقيقة الإسلام، عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التديّن، ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء، والزعماء، وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستحاول كلُّ حكومة أن تحـدّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرَّع الغاصبون بكلّ طريق لمناهضتكم، وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدّة إليهم بالسؤال، وعليكم بالإساءة والعدوان"..
ومن مرّ بتجربة الإخوان سيمشي حتما في هذا الطريق الصعب. والغنّوشي واحد من الذين مشوا في هذا الطريق منذ أكثر من أربعين عاما، وتمرّس به نظريّا وعمليّا، فجرّب السّجون والحكم بالإعدام والتشرّد والمطاردة خارج أرض الوطن. ولن تهزمه حملات من هنا أو هناك مهما كان نوعها، تتعرض إلى مصداقيته وهو يعلم بأنّها مجرد أكاذيب، لأنّه أحرص النّاس على ألا يعطي فرصة حقيقيّة للأعداء يتّهمونه من خلالها.
يعلم الغنّوشي من تجربته، ومن خلال وصايا البنّا المؤسّس لحركة الإخوان بأنّه سيتعرّض إلى كل أنواع التشويه والادعاء. كل ذلك سوف لن ينفع مع رجل التجربة الكبيرة مع الآلام والعذابات من أجل أفكاره وأفكار حزبه. متسلّحا في ذلك بما قاله البنّا في خطابات التأسيس: "سيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات، وظلم الاتهّامات، وسيحاولون أن يلصقوا بكم كلّ نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم".
إلا أنّ الغنوشي يريد أن ينفذ إلى برّ السلام، دون اقتتال، ودون إعادة تجربة الماضي مع قوى استئصالية ما زالت تشرب من نبع الدكتاتوريات الراحلة، وغير المأسوف عليها. الغنّوشي لا يريد أن يعطي الفرصة للآخرين لإعادة تجربة التسعينيات، التّجربة المرّة الذي ذاق فيها إخوان تونس أبشع العذابات. الغنوشي يريد أن ينفذ ما بين الظفر واللحم للاستئصاليين في تونس، الذين حكموها منذ الاستقلال ولا يسمحون لآخر أن يشاركهم الحكم. فتحالف مع الباجي قائد السبسي الشاهد، وحاول ترويض النظام القديم بما فيه من تجمعيين ويسار، ليضمهم إلى سفينة حكم واحدة تتسع للجميع.
يراهن الغنوشي في كل محاولاته للتغلغل في الوعي الاستئصالي، الرافض له، على إقرار مبدأ الحرّية الشاملة. الحرّية التي فتح لها دستور 2014 الأبواب المطلقة، التي لم تعرفها دولة عربية قبلها، وتجاوزت فيه دولا غربية. فهو دستور علماني بامتياز، حافظ فقط على فكرة واحدة يتيمة، وهي أن تونس دينها الإسلام. في الحرّية فقط ينتشر فكر الحركة، وينتشر فكر الإخوان. فهو فكر سلس، حرّ، يقبل الآخر، لا يناهض المرأة، يؤمن بالتداول السلمي على الحكم، وعلى الديمقراطية كأسلوب حكم. وليس هذا من باب السفسطة، فكلّ الحركات الإخوانية في العالم العربي شاركت في الانتخابات ودعت إليها وساهمت في إنجاحها، وأول من فعلها حسن البنا في بداية حركته، ولم ينجح. وما يخشاه الآخرون، المعادون للإخوان، أن هؤلاء ينتصرون في كل البلدان، إذا حدثت انتخابات نزيهة، بأغلبية ساحقة، أغلبية تحيل المعادين إلى التقاعد السياسي والتشتت والضياع. ولهذا فقد عادوا الحرّية والديمقراطية حتى لا ينتصر الإخوان.
ومسألة التشويه عند الغنوشي محسومة. فالتشويه الذي يتعرّض له هو بمثابة حرب إقليمية تشنّها أطراف إقليمية لوأد حركة الإخوان المسلمين في كل بلاد العرب. فبعض من الحروب القائمة في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، وغيرها، يجمع بينها العداء للإخوان المسلمين. محور الشرّ العربي، السعودية والإمارات ومصر، يعرف بأنّ الحريّة باب إلى ولوج الإخوان إلى الحكم، وهو ما يهدّد عروشهم، وعليه، لا بدّ من غلق هذا الباب، بالحرب ونشر الفوضى، واسقاط كل اخواني ناجح.
المعركة الموجهة ضدّ الغنوشي، ستقوّيه، عاجلا أو آجلا. وهو الذي لا يفوّت فرصة إلى إقرار الحرّية في البلاد، والتسليم بالمعايشة بين الأعداء تحت ظلّ القانون. إلا أن ما يخيف الوضع في تونس، تلك المنزلقات الفوضوية التي تغذيها دول خارجية وأطراف داخلية، تحت عنوان أيديولوجي استئصالي، التي بدأت بالتحريض على الدولة مباشرة بعد سقوط حفتر في الغرب الليبي وفي مطار الوطية.
الغنّوشي ليس سهلا، هو لا يخوض معركة تخصّة، إنه يحمل عبء حركة الإخوان المسلمين، حتّى وان أقرّ ألف مرّة بأنّه لا ينتمي إليها.