هل خدعنا جورج وسوف؟
"من هنا ورايح أنا قلبي حيسامح.."
على ما في شخصية جورج وسوف من تناقضات كبيرة وصخب بالغ، إلا أن المتأني في ما يغني يكتشف حكمة لا يقولها إلا حكيم..
لم يقدم الرجل نفسه على أنه الفنان القدوة أو الملتزم إن اتفقنا على التعبير، أقصد لم يجتهد الوسوف في نفي العبثية عن نفسه، بحث بسيط عن سلوك الرجل وحياته الشخصية وإدمانه يدل بسهولة على ذلك، ولعل تغير صوته عبر سنوات فنه خير برهان، كما أن عبثيته واضحة جداً في مقابلاته التي لا يجتهد فيها باختيار ألفاظه أو ترتيب أجوبته بطريقة لائقة ومفهومة، وفِي حفلاته لا يقدم الوسوف صورة بعيدة، يقتحم المسرح بثقة وهو يقول أنا هنا كما أنا، طريقة الوسوف الخاصة، هزلية متناهية إلى الدرجة التي قد تدفعه حد الخروج عن النص بشكل متكرر، أو التوقف فجأة عن الغناء والجلوس على المسرح مع حركته المعتادة عندما يضع يده على خده ثم يضحك بدون سبب، وممكن جداً أن يبادر بحديث غير مفهوم مع أحدهم من الجمهور بطريقة غاية في السخرية، السخرية نعم قد تكون هذه الكلمة الأشد وفاء للرجل وشخصيته وفنه..
نعود لأغنية "من هنا ورايح" أنا قلبي حيسامح وإن قالوا قلبي جريح أحسن مايقولوا جارح.. أغنية جميلة جداً كتبها بهاء الدين محمد ولحنها أمجد العطافي، لم تحظ الأغنية ربما بشهرة كبيرة كما هو الحال مع سواها من أغنيات الفنان، لكن سميعة جورج يعرفونها جيداً ويعتبرون أن هذه المعرفة دليل على محبتهم للرجل ومعرفتهم الأصيلة بأغانيه، في الأغنية نطق بهاء الدين محمد بكل الحكمة، وأداها الوسوف بإحساس عال قد يغشك وتظنها من بنات أفكاره، هذه فلسفة للحياة أن ترضى بالجرح على أن تتسبب به لأحد..
يعلل "الوسوف" أو بهاء الدين محمد فلسفته في ما بعد بأن الحياة لا تستحق كرهاً أو ذماً أو ظلماً أو قدحاً.. وقتها القصير وهمها الكبير يؤكدان هذه القاعدة الصعبة، صعبة لأننا نبقى بشراً فينا من الندية والشر والرغبة في الانتقام ما يكفينا لنقع فريسة لذلك، لكننا إن ترفعنا صارت الأشياء أسهل، جملة مشروطة بـ "إنْ" لأن الأمر ليس سهلاً أبداً ويتطلب سمواً بالغاً وصبراً مضاعفاً، وتسليماً ربما، لكنه ليس مستحيلاً.. العارف والمجرب سيصل إلى هذه النتيجة، أن تجنب الكثير من المعارك أدعى وأجدى، وأن الحفاظ على نقاء الأشياء الأول أشفى للروح، أن ننبش عن ذكرى جميلة تمحو سواها، أن نحمي أو نحاول أن نحمي قصتنا من البشاعة، والتصالح أخيراً مع النهاية المفروضة سيوصل إلى القدرة على تجاوز كل شيء.. لأن الجراح حينها ستصبح أكثر تقبلاً ودواؤها واضح.. التجاوز والتصالح.
كل الحكايات، أي حكاية فيها مساحة واسعة للعتب واللوم، لتحميل المسؤولية، وللاتهام، قد يبدو ذلك في الظاهر مُرضياً، مرحلياً، لكن النتيجة لن تؤدي إلى اندمال الجرح، ولا لتنظيف الذاكرة، ولا لتخفيف الألم، الألم سيبقى ألماً كاملاً وحاضراً وطرياً لن يخففه وقوعه في نفس أخرى، وندبة الروح ستبقى غائرة إلى انقضاء الأجل..
لذلك مهما كان الحزن كبيراً خذه كاملاً تماماً كفرحك، احمله على كتفيك وأعطه حقه الكامل.. الزمن وحده كفيل بكل شيء..
"سيبو ياقلبي يروح .. ياريته ينسى الألم
واللي جرح مجروح .. ماكفايه جرح الندم.."
فوق شدة الحزن وثقل الصدمة، قد تتمنى لقسوة اللحظة أن يذوقها سواك، ليس لأنك تريد إيذاءه بل فقط لأنك تتمنى لو يشعر بربع ما تشعر به.. هذه لب المسألة، وقد تكون سبب كل جريمة وكل فضيحة وكل مشكلة، لأن الإنسان بطبعه يحب أن يشعر الآخرون بشعوره، فرحاً أو حزناً، لا تجتهد في جعل الآخرين يشعرون بألمك، غالباً لن يشعر أحدٌ بشيء، في البداية نحاول أن نقول نحن تأذينا، نحن نتألم، ثم إن لم نجد جبراً أو عذراً نحاول أن نفعل أكثر من ذلك طمعاً في نفس الأمنية، لأننا سنشعر بالإهانة وهي أن الحياة تسير والزمن يمضي ونحن مكاننا أسرى ذات الألم، يؤذينا جداً أن نتألم وحدنا، يتأزم الأمر مع طرف تعتقد أنه السبب، ستفكر بأن تؤذيه فعلا، أن تذيقه من نفس الكأس، تظن أنه سيفهم، وسيشعر لكن شيئاً من ذلك لن يحصل، لم يشعر ولن يفهم، أصلاً لو تخيل طعم غصة واحدة لما فعل ما يؤذيك، الأغنية تقول إنه يكفيه الندم..
هل سيندم؟
ربما .. وربما لا، بكل الأحوال ستكون أمنيتك القادمة أن يندم.. لكن في الوقت الحالي، لا يهم، المهم أن تتجاوز.. أن ترمي وراء ظهرك..
هل سيأخذ ذلك منك؟
بالطبع، أولاً لأنه صعب، وثانياً لأن كل تجربة ستلتهم جزءاً من القلب، كل تجربة ستأكل منا بحجم ما نأخذ منها، كل تجربة ستحفر عميقاً بقدر ذكراها، بقدر أغانيها ودموعها، كل تجربة ستطبع ندبة في الروح، لن نعود كما كنّا حتماً، هذه حقيقة، لكن المهم ألا نخسر أنفسنا بعدها.. وربحها في النسيان والتجاوز..
لا شك في أن الوسوف قدم في أغنيته طرحاً يتقاطع مع الكثير من الدراسات النفسية التي أجريت حول جدوى الانتقام ومساعدته على الشفاء المؤقت، تقابلها دراسات أخرى تؤكد أن التسامح خطوة متقدمة جداً للنفس المجروحة وقد تكون أنجع وأصح، ومهما كانت الطريقة التي نختارها لتجاوز شعور الألم وتخفيفه، يجب أن نتذكر أننا لسنا ملائكة، قد نكره، وقد نغضب، وقد نؤذي..
لكن المحبة الحقيقية أبقى وأسمى، ومن كان أقل استحقاقاً وأقل قدراً منها يكفيه مرارة الندم.. ويبقى السؤال: هل خدعنا الوسوف وكان حكيماً حقاً؟