تعز القريبة... أمي ورائحة المدينة

06 ديسمبر 2016
+ الخط -


انتهيت للتو من محاضرتي الثالثة بكلية الإعلام في جامعة صنعاء. الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً، والتقويم يقول إن اليوم هو الخميس 16 مارس 2006. خرجت من المحاضرة محملاً بسحب سوداء من الشوق لمدينتي تعز، وبدون تخطيط قررت السفر إليها (260 كم عن صنعاء).


كان القرار سريعاً، سأسافر إلى تعز، أحتاج لرؤية أمي وأبي، أصدقائي وشوارع مدينتي. وبينما كانت مخيلتي تستحضر مشاهد لكل ذلك، وكنت متجهاً صوب فرزة تعز (محطة تتجمع فيها سيارات النقل إلى المحافظات)؛ انتبهت إلى أن عيد الأم لم يتبق له سوى بضعة أيام، فدار بيني وبيني نقاشاً استمر بضعة دقائق... كيف لي أن أزور أمي بعد أشهر من الغياب وأنا بلا هدية في عيدها؟ أحدثها في الهاتف بشكل شبه يومي نعم، لكني مشتاق لها كثيراً، وهذا اليوم لا يمر دون أن أقدم لها هدية، ماذا أشتري لها؟...

وبعد هذا العصف الذهني السريع قررت أن أذهب لشراء الهدية قبل أن أتوجه لمحطة السيارات.


أخذت هدية أمي من أحد "المولات" التجارية وسط العاصمة، واتجهت صوب المحطة. كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف. المندوب على الشارع الرئيسي ينادي: تعز؟ آخر راكب... لم أتردد في الإجابة بنعم، وإن كان المكان غير مناسب للسفر أربعة ساعات في طريق مرهقة.

أريد أن أطير إلى حضن أمي ومدينتي.. صعدت إلى الـ"بيجو"، وكان المكان الوحيد المتبقي في نهايتها. وضعت الشنطة أمامي، أخذت نفس عميق، كان الجميع يمضغ القات.

في الكرسي الأخير كنت أنا وثلاثة آخرون، لم يكونوا كلهم من تعز، أحدهم من عمران والآخر من صنعاء والثالث سامعي من تعز. دار بيننا حديث قصير في بداية الرحلة وتعرفنا إلى بعضنا. قال الصنعاني إنه ذاهب إلى تعز لزيارة أسرته، حيث يعمل هناك جده، الذي استقر في تعز منذ 20 عاماً وأصبح تاجراً مشهوراً.

في حين قال العمراني إنه ذاهب لزيارة أخته المتزوجة من تعزي، أخبرتهم أنني أيضا ذاهب لزيارة أسرتي وسأعود إلى صنعاء خلال أيام.


خرجنا من المحطة باتجاه تعز وعبر شارع يحمل اسم المدينة أيضاً. أتذكر الزحام الذي كان في الشارع حينها؛ الباعة المتجولين يحتلون نصف الشارع والسيارات مكومة في الجولة، فيما يحاول شرطي المرور تنظيم السير.

هذا المشهد أجبر سائق البيجو على سلك طريق فرعية للوصول باتجاه منطقة حزيز وصولاً إلى نقيل يسلح، وهي آخر نقطة تتبع العاصمة صنعاء، غادرناها، بعد أن قام رجل الأمن بتفتيش السيارة، باتجاه محافظة ذمار.

وفي منتصف الطريق وفي الوقت الذي كان فيه أيوب لا يزال يشدو بأغنيته؛ غلبني النعاس ولم أصح إلا على صوت السائق ينادي: "راحة ربع ساعة للغداء والصلاة، احنا (نحن) في يريم". ويريم مدينة تتبع جغرافيا محافظة إب (193 كم عن صنعاء). خرج الجميع من السيارة، وبقيت وحيداً، فتحت الهاتف، كانت الساعة تقترب من الثالثة عصراً. انتهت المدة المخصصة للاستراحة، وأنا أتصفح المواقع بهاتفي، عاد الجميع إلى السيارة وعاودنا رحلة السفر إلى تعز.


وبعدما صعد الجميع إلى السيارة، سأل السائق الركاب: "تحبوا تسمعوا شي"، فسبقتهم أنا في الرد على السائق بصوت خجول: "أيوب طارش إذا تكرمت". صمت الجميع ولم يقوموا بأي ردة فعل، وسكوتهم يعني أنهم موافقين على سماع أيوب. استجاب السائق لطلبي وبدأ أيوب في الغناء "وامفارق بلاد النور وعد اللقاء حان... الوفاء للوطن يدعوك لبي النداء الآن"، وهذا المقطع من أغنية لأيوب تحمل اسم "حنين المفارق".


بعد قرابة الساعة وصلنا إلى محافظة إب مع صوت أيوب. هذه المدينة تلقب باسم اللواء الأخضر، بسبب الطبيعة الخلابة التي تتمتع بها طوال العام. وبعدها بنصف ساعة، كنا قد وصلنا إلى القاعدة، وهي مدينة تتبع إدارياً محافظة تعز (225 كم عن صنعاء)، وفيها غلبني النعاس ولم أصح إلا على صوت رجل الأمن في نقطة تفتيش مدخل محافظة تعز، وهو يتحدث مع سائق السيارة، طالباً منه أن يفتح الباب الأخير في السيارة للتفتيش، هذا الإجراء استمر دقيقة واحدة، وبعدها دخلنا تعز.


شعرت كأن روحي ترقص، أنا في تعز أخيراً. وصلنا إلى الحوبان، حديقة المدينة على يميني، وبعدها بأمتار قليلة مرت السيارة من أمام منزل كنت قد عملت فيه سابقا مع والدي، إذ يعمل في المقاولات وكنت أقوم بمساعدته قبل أن أنتقل إلى صنعاء للدراسة. لي ذكريات في هذا الشارع وفي هذا المنزل.


دقائق معدودة ووصلنا إلى محطة السيارات في تعز، أخذت حقيبتي وودعت من كانوا قربي في السيارة، ثم وقفت في الشارع أنتظر مرور وسيلة نقل للذهاب إلى المنزل. أشرت إلى سائق أحد باصات النقل، فتوقف متسائلاً: "البير؟". وبئر باشا هي منطقة في الجهة الغربية للمدينة، فأجبته: "نعم". صعدت إلى الباص، وبعد دقائق كنت في منزلنا، استقبلتني أمي وأخي الصغير، وقبل أن أدخل إلى المنزل التقيت بجيراني في الحارة، وأخبرتهم أني سألتقي بهم لاحقاً.



أخذتني أمي في حضنها وضمتني طويلا. كان هذا الحضن يستحق أن أسافر من أجله آلاف الكيلومترات، قبلت رأسها وبدأنا في الحديث عنها، وعن أبي وأحوال البيت والجيران والمدينة، قبل أن أعطيها هدية عيد الأم، ولو مبكراً قليلاً.


في اليوم التالي، خرجت مع أصدقائي إلى شوارع المدينة، لتعز رائحة خاصة. تستطيع أن تلاحظ تفرّد وخصوصية تعز من وجوه سكانها ومن شوارعها، قلعة القاهرة، الباب الكبير، الشنيني، سوق الأشبط، شارع جمال، التحرير، والعديد من الأماكن.


في نهاية اليوم، وبعد جولة كبيرة في شوارع المدينة مع الأصدقاء، قمت بزيارة منزل خالي وأبنائه في منطقة الشماسي. كان خالي كعادته في الديوان يمضع القات وفي يده صحيفة يقرأها. دخلت إليه، فرحب بي وسلم علي وسألني عن دراستي وأشياء أخرى. كما التقيت بخالتي. سلمت عليها قبل أن أخرج من المنزل مع ابنها.

وفي الحارة، مكثنا ساعات نتبادل أطراف الحديث قبل أن أودعه وأعود إلى المنزل مشياً، مررت بعصيفرة، ثم مدرسة النهضة، وجامع السعيد، وصولاً إلى حارتنا التي تسمى "شعب سليط"، ولهذه الحارة قصص وذكريات سأحكيها ذات يوم.


بقيت في تعز لأسبوع قبل أن يدفعني الشوق أيضا إلى صنعاء. هناك جامعتي تنتظرني، ولي أصدقائي أيضاً وأشياء كثيرة. ودّعت أمي وأخوتي قبل أن أتوجه صوب صنعاء، بنفس الطريقة والتفاصيل التي جئت بها إلى تعز.


مرت سنوات عديدة على تلك الزيارة لتعز وأسرتي. واليوم، وبعد عشر سنوات، لم تعد المدينة هي المدينة ولم تعد أمي في منزلها بتعز. كما أن خالي لم يعد هناك في ديوانه بين أبنائه. توفيت أمي عام 2012 بعد معاناة مع مرض السرطان، الذي أنهكها لأشهر قبل أن يتغلب عليها صبيحة 26 سبتمبر/أيلول.


لم تعد المدينة هي المدينة، لأن جماعة الحوثيين، وبعدما استولت على العاصمة صنعاء بقوة السلاح في سبتمبر/أيلول 2014، قامت بغزو تعز مع قوات حليفها المخلوع علي عبدالله صالح في مارس/آذار 2015، ودمروا مبانيها ومعالمها وقاموا بتحويلها إلى خرابة، وهو ما أجبر خالي مقبل على مغادرة المدينة إلى الريف، ليتوفى هناك إثر سكتة قلبية في أكتوبر/تشرين الأول 2015.


تعز القريبة دمرها الحوثيون وأنهكت الحرب سكانها وقتلت الآلاف منهم، ورفاق السفر الذين كانوا معي على متن "البيجو" قبل عشر سنوات يقصدون تعز للحب والسلام؛ تريد هذه المليشيا أن تحشدهم لقتال أبنائها وتدمير مدينتهم وتصويرهم كغزاة... فهل يفعلون؟

صدام الكمالي
صدام الكمالي
صحافي يمني. سكرتير التحرير المساعد في موقع "العربي الجديد". معد ومقدّم بودكاست "مواكبة".