وهم السلطة الرابعة في العراق
في 15 يونيو/ حزيران 1869م، أي قبل أكثر من قرن ونصف، أطلق والي بغداد مدحت باشا صحيفة زوراء، التي جاءت بالتزامن مع وصول أول مطبعة جلبها الوالي من باريس إلى بغداد في العام نفسه. ومنذ ذلك التاريخ، توالى صدور الصحف العراقية، التي كان أغلبها يظهر إما بدعم من السلطة، أو تعبيراً عن صوت معارضيها، فضلاً عن الصحف التي صدرت بدعم من الدول التي احتلت العراق، وهي تركيا العثمانية وبريطانيا والولايات المتحدة.
إنّ الصحافة في العراق التي تجاوز عمرها القرن ونصف القرن، كانت منذ بداية نشوئها انعكاساً للسلطة الحاكمة، سواء كانت سلطة حكومة عراقية أو سلطة قوات أجنبية غازية. ومن حسن الطالع، أنّ الوالي مدحت باشا كان رجلاً مصلحاً، لم تكن لديه رسائل أو أجندات خفية مارسها آخرون تعاقبوا على السلطة التي كانت محور ظهور صحيفة واختفاء أخرى. لكن المعادلة تغيّرت بعد احتلال القوات الأميركية بغداد في إبريل/ نيسان 2003، حيث أصبحت الصحف أولى علامات التغيير الهائل، بعد أن كسرت القيود المحدّدة للكلمة والرأي، لتظهر عشرات الصحف بعناوين واتجاهات مختلفة دون الحاجة إلى ترخيص رسمي أو دون أن تكون المطبوعات خاضعة لرقابة أمنية أو إعلامية.
صار بوسع أيّ مواطن في العراق إصدار صحيفة، واختيار اسم وهوية وتصميم وهيئة تحرير لها. والأدهى من ذلك، أن أصبحت صفة رئيس تحرير ومدير تحرير تؤخذ ولا تعطى، حيث صار بإمكان أي شخص يمتلك القدرة على دفع ثمن الطباعة أن يعطي نفسه وأفراد أسرته أي عنوان صحافي يريد، دون حسيب أو رقيب، ودون اعتراض من قبل السلطات الرسمية أو نقابة الصحافيين التي تتعامل مع ما هو كائن لا مع ما يجب أن يكون، ثم انتقلت حمّى الحرية الإعلامية إلى الفضائيات ثم المنصات الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، ليتحوّل المشهد الإعلامي العراقي إلى نموذج واضح للفوضى والتخبّط والمزاجية.
رجال السلطة الوهمية الرابعة في العراق تحوّلوا إلى مجرّد أبواق تنفخ بكلّ ما يثير الناس ويحرّك الشارع
المعضلة في الأمر، أنّ المحتوى الذي تمتلئ فيه المنصات الرقمية العراقية في أحيان كثيرة لا يتطابق مع أبسط معايير الجودة إلا في حالات قليلة، حيث بات الانتشار أهم معيار للنجاح، لأنّ جمهور وسائل التواصل يفضل الإثارة والسياحة الرقمية على المنفعة والتعلّم، وانعكس ذلك على الإعلام الذي اتجه للإثارة وتلبية رغبات الجمهور ليتحوّل إلى إعلام شعبوي لا يراعي القيم المعروفة في صناعة الأخبار والبرامج.
هذا المشهد الاتصالي المرتبك، فتح الباب أمام مراكز المال والسلطة لركوبه، لا بمحاولة تنظيمه وتقنينه وتنقيته من خلال دعم المؤسسات الرصينة وتشريع القوانين الرادعة وتأصيل تقاليد العمل المهني، بل ما حصل هو الاستفادة من هشاشة الإعلام واختراقه سياسياً ليتحوّل إلى إحدى أدوات الفساد.
وبين عشية وضحاها، تحوّل المشهد الإعلامي العراقي إلى مجموعة جيوش إلكترونية يحرّكها المال السياسي ومؤسسات ظاهرها مهني وواقعها سياسي، والجميع يتحدث عن أنه خير من يمثل السلطة الرابعة، دون أن يصارح نفسه عن حقيقة هذه السلطة الوهمية التي لا قوانين تحمي رجالها ولا مواثيق مهنية تحافظ على أخلاقياتها، ولا تقاليد عمل يحترمها القائمون عليها.
تحوّلت الصحافة في العراق، وبعد أكثر من 152 عام من عمرها، إلى حديقة خلفية للسياسة والمال السياسي
رجال السلطة الوهمية الرابعة في العراق تحوّلوا إلى مجرّد أبواق تنفخ بكلّ ما يثير الناس ويحرّك الشارع، وتحوّل أغلب الذين ينسبون أنفسهم إلى الصحافة إلى مجرّد نافخي أبواق يعملون من أجل الحصول على تأييد فريق سياسي على حساب فريق آخر أو في أفضل الأحوال يتسابقون من أجل تحقيق الانتشار الرقمي أو المزيد من "اللايكات" عبر منصات التواصل الاجتماعي لكسب المال والشهرة، بعيداً عن قيم المهنة ومحدّداتها ومعايير الجودة التي باتت من الماضي.
الصحافة العراقية التي بدأت كانعكاس للسلطة السياسية، تحوّلت بعد أكثر من 152 عاماً من عمرها إلى حديقة خلفية للسياسة والمال السياسي، والأداة الأقل كلفة والأكثر تأثيراً للابتزاز، فضلاً عن أنّ الدول الطامعة لم تعد تحتاج إلى إدخال جيوشها لتؤسّس وتموّل صحفاً جديدة تجمّل صورتها وتنشر رسائلها الخفية، بل صار المال الخارجي يتدفق بحرية من أجل دعم مطبوعة أو منصة رقمية أو فضائية عابرة للحدود بعنوان جذاب.
وكلّ ذلك تحت عنوان السلطة الرابعة، وهي في الواقع سلطة وهمية تنخرها الجيوش الإلكترونية ويتحدّث باسمها المبتزون ويتبرقع بها الفاسدون، ويستثمرها أصحاب السلطة والمال داخل وخارج العراق، ويتحمل ثقل الفاتورة فيها ما بقي من رجال المهنة الذين يكافحون من أجل البقاء على قيد الفكرة والقلم، وما بقي من مهارة وقيمة.