وداعاً عمر منّاع
"أطلقي لزغاريدكِ العنان، دعِي ساعديكِ يعلوان بالنعش، زيدي طهارته طهارةً، مُدّي يديكِ أكثر واقتحمِي بذراعيكِ نعشي، فلم أكتفِ من حضنكِ، وها هي المسافة إلى مثواي الأخير تقترب يا أمي فاقتربي، وابتسمي أكثر وأكثر، لا تسمحي للدمع بأن يخطف حديثنا الدافئ هذا؛ فالدمع شؤم، وأنا عريس للأرض الأجمل، والأشد قداسة: فلسطيننا، التي لم أعشق سواها، ودفعت عربون حبّها للتو، رصاصتين إحداهما في الصدر، فزفيني يا أمي، وشحيني بعلمها، فمعشوقتي تنتظرني لتضمني بين ضلوعها"..
هذه كلمات أبصرها القلب حين لم يفلح السمع باستراقها في ذلك الحوار الخفي الذي كان يدور بين عمر منّاع ووالدته، وهي تحتضن النعش؛ لتفاخر العالم بأسره بعمرها وهو يترجل لعمر آخر قصده، وكأنها تختم صفحات ذكريات أكثر من عقدين؛ وتشرع بفتح دفتر يسمو طهارة، مراحله مزيّنة بالدم، فتبتسم وتصمت لتستنشق مسك العمر، وهو يفوح من بيت لحم إلى يافا، والنعش يعلو بعمر متوّشحاً بعلم الوطن، وعلى محياه عصبة الجبهة الشعبية.
الجبهة الشعبية التي انتسب إليها؛ معتنقاً فكرها، وسار يسرد تاريخها، وبطولات قادتها ومناضليها الذين أقسم بأن يمضي على دربهم؛ فمضى متخطياً كلّ ما على الأرض حتى حملته الراية الحمراء، وهو يسمو بها وهي توصله إلى الرفاق قبل ساعات، ودمه يُردّد: "على العهد يا حكيم ووديع وأبا علي، فالعين بالعين والرأس بالرأس، يا أمين جبهتنا يا سعدات، طمئن أبا علي بأنّ الجبهة ما زالت لليوم عصية متمردة ثائرة ولغماً على كل من أراد السلام بأرض لا سلام فيها، ولا مساومة فنحن على النهج، وما بدلنا تبديلاً".
إبان ذلك كانت مآذن بيت لحم ومخيم الثوار، الدهيشة، تصدح برثاء الشهيد، وتعلن الحداد، والطرقات تعج بآلاف من مقاومين يتوعدون بثأر قريب لعمر، وشبان ورجال ونساء تائهين/ات بين فرح لارتقاء عمر شهيداً، وشجن على فراقه، وأطفال ينظرون إلى التشييع المهيب؛ ليرسموا حلمهم بالمقاومة والشهادة. وحيث المخبز الذي كان يعد به عمر خبزاً، احتشدت الجموع لاستراق رائحته ولمسة يديه، يحسدون، كما حالي الآن، كل من تناول كسرة خبز صُنعت بأنامل الشهيد.
وما زال عمر، المثقف والمقاوم والأسير والجريح؛ حتى بارتقائه شهيداً مشتبكاً، يقتنص كلّ فرصة لقنص العدو، ويُقصي كلّ من لا يؤمن بالمقاومة
تروي والدة عمر كيف باغتها، ولم يوقظها ويخبرها بأنه أراد الترجل إلى السماء. ففي فجر 5 ديسمبر/ كانون الأول، تسلّل المحتل الصهيوني للمخيم، واعتقل نحو ثلاثة شبان، بينهم يزن شقيق الشهيد الذي كان يتصدّى، ورفاقه، لاقتحام قطعان جنود بني صهيون للمخيم، حيث اعتادوا حماية الدهيشة منبع الثوار من محتل وضيع، وعلى الفور ردّوا على الرصاص بالرصاص، واشتبك الشبان الأبطال لوحدهم مع ترسانة العدو الصهيوني العسكرية الإجرامية، وإبان ذلك أصابات رصاصات الغدر والمكر عمر، لكنها والله لم تغتله، فما زالت عيناه الخضراوان الساحرتان تُبحران في يافا وحيفا وعكا، وكلّ فلسطين والأراضي والمياه المحتلة، وتصل إلى طبريا والجولان، وتمرّ بغزة قبل أن تعود إلى الدهيشة لتحرس المخيم؛ وهي تسطع لهيباً يفتك بجنود الصهاينة، وتتوعد "يا سائق المركبة العسكرية، قف واستدر، هنا المخيم، هنا قلاع الثائرين، فنحن نقف بصمود، والعالم ينحني أمامنا".
وما زال عمر، المثقف والمقاوم والأسير والجريح؛ حتى بارتقائه شهيداً مشتبكاً، يقتنص كلّ فرصة لقنص العدو، ويُقصي كلّ من لا يؤمن بالمقاومة، ويشدّد على أن "لا طريقَ للعودة والتحرير سوى بالكفاح المسلح، وإقصاء من لا يؤمن به"..
وهو يتنقل من الاقتباس عن أديب الثورة القائد غسان كنفاني، إلى المثقف المشتبك باسل الأعرج، يخطّ كلماته مقتدياً بهما، ليُعرّي أشباه حكام ومثقفين وكتاب وأحياء ودعاة نضال وبطولات؛ وأدوا ضميرهم، ثلة منهم ما زالوا يدافعون عن فلسطين في العلن ويخونونها بفداحة في السر، وآخرون فَجروا حتى باتت خيانتهم بصور موثقة ينشرونها على مرأى العالم.
ولعلّ أقدس كلمات أختم بها، وأنا في حضرة الحديث عن العمر، كلمات خطتها يمناه، وربما لو خطّها لذاته اليوم لتضمنت هذا التعديل الطفيف: "تحررت والفجر يبزغ، رأيت المنتزه والأيائل تموت، والقصب يجف، والأشجار تقلب أوراقاً يابسة، والطواويس تقع. حين قالوا إنهم اغتالوني، تمرّدت على نفسي وتحرّرت، وهذا الأجمل في زمن قباحتهم، فأنا أحلّق في العنان، حيث يحيا الرفاق بالجنان والفردوس، أرى بلادي كاملة دون جند واستعمار. وأنا أتوّشح بعلم فلسطين فقد ربحت المعركة، والآن أسافر فوق كامل التراب الفلسطيني، ومن حولي مالك وساجد وبراء وجهاد وآلاف الشهداء... وأما من اختبؤوا خلف أشلاء الشهداء، وتاجروا بدمائهم؛ فقد دخلوا بغيبوبة تحت غطاء غطّاه الغبار لمدة أعوام، ولن يفيقوا".