هل يغسل "عكر الزيت" الزمان وأهله؟
كنتُ صغيراً جداً على الإدراك أو الفهم المستقيم، في السنة السادسة أو السابعة من عمري، حين تردّد على مسامعي صدى صوت يُنادي: "عكر الزيت يا صابون".
كان المنادي من عامة الخلق، تظهر في هيئته حالة فقر مدقع، وكنتُ لا أفهم قصده من هذا النداء العصي على الفهم في تلك الأيام، نهاية ستينيات أو بداية سبعينيات القرن العشرين. كان يجر حماراً، هو الآخر (الحمار) من أفقر ما خلق الله، سرجه فقير، و"مخلاته" في عنقه أفقر، وخرجه أكل عليه الدهر وشرب. يجول في الأحياء والأزقة الفقيرة مثله، في مدينة إدلب بالشمال الغربي من سورية.
كان الصابون عزيزاً في تلك الأيام، وقد كانت أمي، عيوش دهنين، رحمها الله، حين كان ينفد صابون الغار المصنوع من عكر زيت الزيتون وأوراق شجر الغار، ونحن نصيّف في كرم العنب والتين، بعيداً عن المدينة، كانت تعمد إلى صنع صابونها الخاص. كيف؟ تأخذ في قطعة قماش كمية كبيرة من رماد حطب أغصان الزيتون والعنب والتين من "الأثفية" التي تطبخ على نارها، وتصرَّها، ثمَّ تضع الصرَّة في دلو تملؤه من ماء الجبّ المنقور في الصخر وتتركها منقوعة لساعات، ثمَّ تستحلب هذا المزيج العجيب لتأخذ منه وتغسل الأواني والثياب والأيدي. ولعل أم جلجامش (كما تقول المرويات) أول من استعملت هذا النوع من الصابون، وكانت تُضيف إليه أحد أنواع العشب عطري الرائحة عندما كانت تُزّين نفسها وتصعد إلى سطح المنزل لتصلّي من أجل ابنها علَّ الله يهديه، لأنه ضلَّ سواء السبيل، فتسكن نفسه المضطربة في البحث عن عشبة الخلود. ولعلها أضافت إليه أيضاً النباتات الصابونية، ومنها الطرفاء والأشنان، لصناعة صابونها الذي يطيِّب براحته العطرة الجسد فيستجيب الله دعاء الأم.
وبالعودة إلى معنى نداء "عكر الزيت يا صابون"، فقد كان يجول ذلك الفقير على حماره في الحارات الشعبية في مدينة إدلب، يشتري من البيوت ما تجمعه النساء من عكر في قعر آنية زيت الزيتون، أكانت تلك الآنية جرة زيت من فخار، أو تنكة زيت عندما دخل معدن التنك حياتنا، حيث صار الزيت يُعبّأ في عبوات من تنك، تسع الواحدة منها 16 كيلوغراماً من زيت الزيتون، ونسميها تنكة زيت، لأنها مصنوعة من تنك، ولا تزال تستعمل معياراً لوزن زيت الزيتون في إدلب إلى يومنا هذا.
جرى وصف أول استخدام موثق للصابون على رقم مسماري عُثر عليه في بلاد ما بين النهرين
ومحافظة إدلب تُعدّ من أهم مناطق زراعة الزيتون في سورية، ففي محافظة إدلب يوجد أكثر من خمسين مليون شجرة زيتون، وفق إحصاء عام 2000. وفي تلك الأيام، كانت معاصر الزيتون بدائية تعتمد العمل اليدوي في كلّ مراحل عصير الزيتون، لذلك كان يرسب عكر الزيت بكمية لا بأس بها في قعر آنية الزيت.
كنتُ صغيراً قبل سن المدرسة حين ذهبتُ أول مرة (وهي لا تُنسى بكل تأكيد) مع أبي راشد دحنون لعصر الزيتون الذي كان يشتريه في دكانه من "المعفرين" الذين يجمعون فضل ما تركته الأيدي أو تاهت عنه في موسم قطاف الزيتون في براري مدينة إدلب، أو ما يسرقه حرامية الزيتون من الشباب الطائش في غفلة من ناطور كروم الزيتون الراكب فرساً عربية أصيلة، متنكباً "جفتاً"، متمنطقاً نطاقاً من خرطوش، وشغلتُه الأساسية حراسة براري الزيتون. وكنا نسميه في مدينة إدلب "مخضّر". أما لماذا هذا الاسم؟ لا أعلم، ربما لأنه يحرس شجر الزيتون دائم الخضرة، أو لأنّ لباسه العسكري يميل إلى الأخضر الزيتي، فهو مخضّر. أذكر أن "شكارة" أبي كانت أكثر من عشرين "جولاً" من الزيتون ذهبنا بها إلى معصرة "آل غنّوم" عند سطوح المعصرة. وكان الزيت ما زال يُنقل من المعصرة إلى البيوت بالضروف، تحملها ظهور الرجال. والضروف: مفردها ضرف: قربة من جلد الماعز في الغالب.
جرى وصف أول استخدام موّثق للصابون على رقم مسماري عُثر عليه في بلاد ما بين النهرين، وفقاً لعالم الآثار الكيميائية مارتن ليفي. وجرت كتابة الرقم قبل 2500 عام قبل الميلاد، ويتعلق بغسل وصباغة الصوف. ولصبغ الصوف بشكل صحيح، يجب على النساج إزالة الدهون من المنسوجات، والتي يتم تحقيقها بسهولة أكبر باستخدام الصابون. وقد اكتشف السومريون أنّ الدهن أو الشحم الحيواني، كان السبب وراء عمل الرماد الصابوني بشكل جيد كعامل تنظيف، ويمكن إضافته إلى الماء لإنشاء دلو من الصابون السائل. يمكنهم إنشاء مزيج مثالي من القلويات أو الدهون الحيوانية مع رماد نبات الطرفاء أو الأشنان وغسل أي شيء، وخاصة، والأكثر أهمية، أيدي الإنسان. لذلك قال الشاعر العباسي ابن عجاج: واغسل يديك من الزمان وأهله/ بالماء والصابون والأشنان. وقد أبدع حقاً في تعبير "غسل الزمان"، وهل يُغسل الزمان؟ وكيف يكون ذلك يا ترى؟ وهل ينفع صابون عكر زيت الزيتون مع الغار أو الصابون الذي كانت تصنعه أمي في البرية في غسل زماننا الأغبر هذا؟