هل نحن نتعلم من بشار الأسد؟!!

10 مايو 2021
+ الخط -

لا شك في أن الدولة كانت وما زالت تشكل محوراً مركزياً لكل النشاطات الفاعلة في التاريخ، إما من جانب التمكن في مقدراتها وأجهزتها، أو من منطلق الحد من جبروتها وسلطتها، ولعل كل أحداث سورية، ومنذ عقد من الزمن، تتجه نحو فك ارتباط الدولة بطائفة أمنية جمعت الدم والظلم والعبث وهدر الثروات والموارد الطبيعية والبشرية..

ولأن التاريخ ملك من يصنعه لا من يكتبه، فقد يحرف في سرديته، لكن الأثر التاريخي أصدق وأبقى وأكثر دواماً فعلاً من مجرد كتابة قد تخضع لهوى، أو مزاج مصلحة، أو إملاء سلطة، أو دعاية وشائعة، فإن الأمة السورية في تاريخها المعاصر، بمطباته ومخانقه، تحولت ذاكرتها التاريخية إلى فعل يفرض حكايته، ولم تعد السلطة  قادرة على التزوير والتزييف والقص، فضلاً عن كتابته، رغم امتلاكها شرعية القوة المسلحة بالتواطؤ الدولي، فقد شب الشعب عن طوق واحتواء وامتطاء الحكم له، وها هو يكتب ملحمته الخالدة..

لكن السلطة لم تتوقف في حربها ضد شعبها مستعينة بتحالفها مع قاعدة التدجيل الدولية، تلك الماكينة الإعلامية الجبارة والتي يرافقها ذكاء سياسي ومماطلة وتلهية وإطالة للمأساة، ويغذي هذا التدجيل العالمي التدجين الأمني الداخلي الذي يقمع ويقهر ويسحق كل كرامة، بل ويصوغ عقل المعارض له ومفرداته..

ويتوافق المحركان الدولي والداخلي على محاصرة أهل العقل والوطنية والزعامة السورية ذات الطابع المحوري الاستقطابي، ومن هؤلاء المهندس أحمد معاذ الخطيب.. الذي لم يسلم من تغييب إعلامي ومن تشويه من بعض أطياف المعارضة ومن كيد النظام السوري وتعرضه لمحاربة التدجيل والتدجين.

الحل في سورية  حسب رأي الخطيب يكمن  في تجاوز تطرف العلمانيين وعقد المتدينين وأزمات القوميين..

تكمن قيمة هذا الزعيم الوطني في كونه يملك انفتاحاً سياسياً يبدو ضرورياً من أجل مد الجسور مع العالم، بغية صناعة رأي سوري يسهم في خلق قرار عالمي، فالملاحظ أن الصوت المعارض لبشار في غالبه كان يصدر البيانات لنفسه، ويحاور ذاته متلمساً نبرة الزعيق والحماس والوعيد والاتهام، وهي مفردات يجيدها النظام، لكن الخطيب كسر هذه الرتابة وآمن أن التواصل مع العالم بعقلانية فرض وطني وواجب ثوري، كي لا نكون أسوأ محام لأعدل قضية في ظل لعبة الأمم الإعلامية، كما التزم الخطيب بضرورة الأخذ بمبدأ تعرية النظام إعلامياً واستيعاب المتغيرات والقفز فوق الأفخاخ التي نصبت له، فكشف أقنعة الآخرين وتحدث بالحقيقة كما يجب، وبدد جزءاً من الالتباس أو اليأس الذي تعيشه الأمة السورية بسبب الخلط، بقصد أو بدون قصد، بين فكرة الثورة والطائفية والدم والسلاح.

واستطاع أن يكون البديل المشروع وفق خطاب سياسي يتمتع بعقلانية تختزن الاستمرار الثقافي والاجتماعي واللغوي والجغرافي والتعددي لسورية.

فكر إنساني وبرنامج عمل عقلاني في علاقتنا بالعالم لا يلتزم أحلام الشعراء ولا عواطف الثوريين..

فالسوري مدعو لأن يبدو أكثر إنسانية، لا سيما وقد تمت محاصرته واتهم بالعنصرية والتعصب والانعزالية، وهي اتهامات غير دقيقة ولا محقة، وإن كنا نتحمل جزءاً من الملابسات والظروف التي أحاطت بها وروجت لها.

وفي وقوع المواجع ترق المشاعر، ويستفسر الإنسان عن مواقفه وجدواها، وقد راجع عقلاء من السوريين السيرة والمسيرة، وقال البعض هل أخطأنا؟ وفي مقدمة هؤلاء الزعيم معاذ الخطيب، لكن هناك من يشوش ويعكر الرؤية حول جهد وجهاد هذا الرجل، فقد تعرض لانتقاد من جهتين، علمانية تنقد داعش لكنها تتمثل خطواتها في رفضها لمن ليس على شاكلتها، وجهة من المتحزبين الإسلاميين الذي رأوا في منطقه خروجاً على زعامة تاريخية لهم، الخطيب بقي يعمل رغم عدم تزعمه أي منصب رسمي في مؤسسات المعارضة بعد استقالته، التي كانت رسالة للسوريين إننا بحاجة إلى جهد جماعي فكري وتربوي وسياسي وخطاب إعلامي تقي وتكامل الحلقات الأساسية للانتماء الوطني والقومي والديني، فهذه هي مصادر الثراء الحقيقية لسورية، وأن الانتماء للثورة هو انتماء لوجع عام وليس لنظام معارض، وإنما لوطن عرفه الخطيب بالمكان الذي ننشأ ونعيش فيه، ونحبه ونحتمي به، ويُسهِّلُ علينا أمور حياتنا مع مجموعة من الناس الذين لنا معهم تاريخٌ طويلٌ، وبأرضٍ واحدةٍ، وبيننا مصالحُ مشتركة، وعاداتٌ متقاربة، ونحس بأننا ننتمي لهذا المكان وما فيه، ويملؤنا الحنين إليه..

رغم وضوح مطالبه ومشروعيتها، إلا أن الخطيب تعرض بشكل ممنهج لحملة من الأكاذيب، فمن هو وراء ذلك؟

وقد أجلت الطرف في ما حولي من التفاصيل اليومية التي مرت على الشعب السوري، وقد رأيتها حافلة بالدلالات الكبيرة التي تنبغي دراستها وفهمها، وهذه قصة من تلك التفاصيل حصلت معي شخصياً لا تخلو من مفاهيم موحية، ولكنها تجرح وتفضح أيضاً الوعي السوري العام ووقوعه بين براثن التدجيل والتجهيل.

في اجتماع في ألمانيا مع بعض الإداريين في المركز التعليمي لحقوق الإنسان، دار حديث حول الشأن السوري، ولفت نظري هجوم سيدة تعمل معنا على الأستاذ معاذ الخطيب بعد مقالته الاستفهامية الاستنكارية (هل تشرق الشمس من موسكو؟)، وكنت قد زودت تلك السيدة بمقالي الذي نشر على ساسة بوست، والذي فند ورد على الزوابع التي أثيرت آنذاك على مقولة الخطيب، لكن السيدة  للأسف لم تقرأ المقال الأصلي للخطيب ولا مقالي في الرد على الأكاذيب التي أشيعت آنذاك، واكتفت بمنشورات فيسبوكية  حول المقال وصاحبه، ثم اتخذت موقفاَ متشنجاً ينساق وراء عواطف العامة وكيد بعض أطياف المعارضة، وكذلك عقلية النظام حيث تبدو دورة التحول سريعة عند السوريين وغير مفهومة من مرحلة الاختلاف المشروع إلى الخلاف المذموم، ثم التفرق البغيض إلى التحزب الجهول، ثم البيادق المأمورة المتصارعة والبنادق المأجورة المتقاتلة ثم الإقصاء..

لقد تبين لي أن أول درس تعلمه الكثير من السوريين من شعار الأسد ومليشياته (الأسد أو نحرق البلد) أنه لا إمكانية لاختلاف مشروع محترم، ولا أبالغ إن قلت: إن المشهد السوري يزداد قتامة ليس بفعل النظام السوري ودواهيه، بل بسبب القصور في الوعي الجمعي السوري وفي فهم الاختلاف الذي هو ظاهرة طبيعية، بل صحية، وفي طريقة إدارة الاختلاف، حيث انتقل من الحوار إلى الشجار المشخصن، وأصبحت حواراتنا لا تدور حول موضوع أو قضية، بل حول شخص أو مصلحة خاصة، وقد وضع أ. الخطيب نقاطاً مهمة في فهم السلوك السوري أضعها بين يدي القارئ لأهميتها :

• خلال ما يقاربُ ثلثي قرن، لم نعش التواصل الوطني الواسع ولا استطعنا فتح أيٍ من صناديق التاريخ بتجرد.
• السلوكياتُ السلطوية في مملكة الخوفِ تنعكس اليوم بشكل مريع بين السوريين.
• ومن أخطر العادات التشبعُ بسلوكِ خصمٍ لاأخلاقي نتيجة الإكراه الطويل عليها والألفة معها ؛ فالتخوين والقطيعة والاتهام والمزاودة الشعبوية والانقضاض بشراسة على الأحياء والأموات واستغلال عواطف العامة لتهييج الغرائز الطائفية، مادة لا تنزل عن موائد بعض النخب المنخورة، مُقَدِّمَةً للنظام أكثر مما يحلم به من تفتيتٍ لا ينتهي وإحراق ليس فقط للشخصيات الوطنية والمرجعيات الحية المنهوشة بألسنٍ متوحشة، بل حتى لأي شخص قد يحزن لوفاته أشخاصٌ، عددهم أو تنوعهم أكثرُ من المطلوب.

• روّضَ النظامُ الشعب على تفكير بدائي مذهل محتفظاً لنفسه بقدرات التعامل مع كل الملفات الخطيرة بعقليةِ دولةٍ لها تفكير استراتيجي عميق، وتناوِرُ في المجال الداخلي والإقليمي والدولي مبقية الشعب في مستوى من التفكير هو عين التهريج، وانعكس ذلك في الأداء بل والعلاقات بين مكونات الشعب السوري التي يمكن بسهولة سوق بعضها لتصادُمٍ مُمَهَدِ الطريق، ومن نتائجه تفكير باطنٌ بإبادة كل طرف لكل من يخالفه، وصحيح أن الداعشية هي تنظيم محدد، ولكن الداعشية، كتفكير إقصائي مطلق وفكر يبتر المخالف بتراً، هي توجه زُرِعت بذوره بعناية خلال جهد طويل، وسيظهر بسهولة أن الدعشنة عقلية ممتدة وبحِدَّةٍ في كل الأطراف والهويات.

• عقلية التوسع المائع بلا هدف، وتعقيد المسائل، واختراع الشروط دون دليل عليها ولا حاجة إليها، صارت منهجاً تجده في العلاقات الاجتماعية (زواج - طلاق - حضانة)، وفي حل الإشكالات (موافقة جهات مختلفة ورشاوى وإكراميات وصفقات تبادلية)، وفي مسارات التوظيف والعمل ( العلاقات الخاصة - عدم الكفاءة - الحاجة لموافقة مدير قلعة حلب لتعيين عامل مطعم في ريف دمشق)، وفي التدريس الديني (شروط تتلوها شروط، وحِدَّةٌ مذهبية في الاعتقاد تخترع من الدين مائة دين يكفر بعضها بعضاً أو يكاد)، وفي المجالات الإعلامية (تشويه - تناقل غير موثق - افتراء - تحطيم)، ولما فتح قمم الاجتهاد السياسي بالتداعي المنطقي، وبدل البحث عن حل مهما كان، ثم دراسته؛ صارت عندنا جحافلُ من المنظرين والقضاة الذين يضع كل منهم عشرات الشروط الذاتية للتعامل مع أي حل سياسي، لا من خلال أسس عامة بل من نوافذ ضيقة وشروط تعجيزية، صاحبها أول من يعجزُ عنها وتغدو رابعةَ الغولِ والعنقاءِ والخِلِّ الوفي، بل يصعد بعضهم درج الأستاذية، فيقرر الصفات الخاصة بكل من يقدم اقتراحاً لإنقاذ بلده بتقعرات ربما توحي، حسب وصف بعضهم، بأننا نتجه لتأسيس مشفى عقلي كبير قد لا نخرج منه قبل مائة عام.

تتميز المرجعيات بأي مجال بقدرتها على رؤية الثغرات أكثر، والتحليل الأدق، واستشراف القادم، ويوازي ذلك استبصار جماعي لدى عموم الناس، فيكون وعيهم إذا نجوا من ضغطٍ مقصودٍ هو الأقربُ إلى التوجه الصحيح، بينما تستسلم القوى التي فوق العوام بقليل والنخب محدودةُ التفكير لحرفية المبادئ، وتميل إلى التعقيد المنهك وتشبيك الأمور، وأسوأ الحالات تنتج عندما يحصل طحن الجميع خلال نصف قرن، فيغرق المثقف في الذات، وتتحول الأهداف الخاصة إلى أهداف وطنية، وتتفشى اللامبالاة والسلبية واليأس بين الكثيرين، وتبقى النخب محدودة التفكير لاهثة وراء أية صيحة، ومتوهمة أنه لا مسار دونها، وتصبح ساحات حربها وسلمها وانتصارها صفحات (الفيسبوك) ومقابر (الواتساب) الكئيبة.

الخطيب، الذي نراه يتحرر من أي تطويع فكري أو مضارعة للسلطة، كان قد قدم مبادرة ذهبية للخلاص من الدم، كما حذر في كل نشاطاته من أن هناك من يريد لسورية أن تكون حقيقة بشرية  لفجيعة مؤلمة، وحقل تجارب أسلحة ومراهنات دولية وتصفية لحسابات إقليمية، وأن تعوم سورية في بحار الدم والسيطرة، بعد تفريغها من عمقها التاريخي ومضمونها السياسي وفرصها الاقتصادية وأنساقها الاجتماعية. ماذا يتبقى لنا على الخريطة السورية بعد تصلب النظام وتوحشه وبعد مضارعة أطياف من المعارضة له؟ خريطة دم وتهجير. لم يشتغل الخطيب بما قد اتهمه البعض به من كونه متديناً، ولا بمنكافة العلمانيين، بل عمل، وما زال، على إزالة التناقض بين عناصر انتماء سورية لأجل المزيد من التحرر العام، لكي تبقى الثورة وإنسانها السوري في قلب الوطن لا على هامشه أو في يد الآخرين.

الحل في سورية، حسب رأي الخطيب، يكمن في تجاوز تطرف العلمانيين وعقد المتدينين وأزمات القوميين..

دلالات