هل علينا إرضاء الآخرين؟
جميعنا رغبنا يوماً ما في أن نبهر الآخرين، وأن نظهر جاذبيتنا لديهم من اللقاء الأول، أو ربما قرأنا كتباً تدور حول هذه الأسئلة: كيف تعقد اللقاء الأول؟ كيف تحدّد شخصيتك في الدقائق الأولى؟ أهمية اللقاء الأول... أو ربما سمعنا وشاهدنا وحضرنا العديد من هذه المحاضرات، لكننا لم نتوقف لنسأل أنفسنا: لماذا نريد أن نبهر الآخرين في اللقاء الأول؟ ولماذا ليس لدينا فرصة ثانية لفعل ذلك؟
حين نلتقي فتاة للزواج، لا يمكن أن نبحث عن أيّ سبيل للإبهار في اللقاء الأول، ذلك أننا لو فعلنا تلك الحركات البهلوانية، فلن نتمكن من العيش طوال الخمسين عاماً القادمة بذلك الرداء وتلك الخفّة.
تفرض اللقاءات الأولى بالآخرين صعوبة في كيفية أن نقدّم شخصياتنا للآخرين: ما الذي نرتديه؟ كيف نتحدث؟ كيف نجلس؟ هل نرمش بأعيننا أم نتوقف لثوانٍ قبل فعل ذلك؟ هل نكون حاضري البديهة، سريعين ولبقين، أم نتأنى في الحديث، ونفكر قبل إلقاء الكلمات؟ هل علينا أن نبتسم، مع كلّ جملة نقولها، أم نتوّقف عن فعل ذلك، لنبدو جادين ومسؤولين؟
يُحدَّد الكثير من العلاقات بناءً على اللقاء الأول، لكن ذلك أتى نتيجة لسرعة العصر الذي نعيش فيه، عندما غادرنا الأرياف والقرى واستعمرنا المدن، اضطرتنا الحياة إلى أن نتعامل مع الكثير من الغرباء يومياً، وقد توقفنا تماماً عمّا كنّا نفعله في الأرياف، لأننا كنّا هناك هادئين ومسالمين وبطيئين في القرارات والتفكير، وكان مجتمعنا الذي نعامله يومياً ينحصر في تلك الوجوه التي نعرفها، وفي أولئك الجيران الذين لطالما عرفنا تفاصيل حياتهم خلال سنوات طويلة، ولم نحتج إلى لقاء واحد، لنحدّد معرفتنا بهم كما نفعل اليوم.
لقد انتهى بنا الأمر إلى هذه المدن الكبيرة، إلى الأضواء، إلى العالم السريع، إلى الزيف، إلى الخداع، إلى الحفلات الجماعية، وإلى معرفة الأشخاص ظاهرياً، وتلك خديعة كبرى.
شخصية القرن الحادي والعشرين لا تبحث عن الإنسان، بل تبحث عن الإبهار والخفة، والأسطح اللامعة
من واقع هذه النظرة، ربما اعتبرنا الإنسان الذي يتحدّث كثيراً، ويحاول إبهار الآخرين، ويبدو صديقاً صاخباً ومتعالماً، نموذجاً لشخصية القرن العشرين، وقائداً في معظم الأحيان، وهذه النظرة تأتي على حساب الشخص الانطوائي أو الخجول، الذي لطالما رأينا أنّ عليه زيارة الأطباء النفسيين، أو على الأقل قرّرنا الاحتفاظ بمسافة لاتقاء شرّه، أو مخافة ما يدور في رأسه من أفكار عميقة.
يجد البعض في الانطوائيين شيئاً من الجاذبية، وفي التاريخ كان منهم العباقرة وذوو الخيال الواسع، الذين أتاحوا للتأمل مساحة كبيرة من أذهانهم على حساب الحياة المحيطة بهم والمليئة بالصخب والضجيج.
قد يبهر الشخص الانطوائي الآخرين بما يدور في ذهنه، لكن لماذا علينا أن نبهر الناس في اللقاء الأول؟ لماذا لا ينتظر الناس لقاءات عدّة حتى يكتشفوا عمق ذوات الآخرين؟ حتى نكشف أولئك البهلوانيين القادرين على ترك أجمل الانطباعات عن شخصياتهم التي تقمصوها في اللقاء الأول، فيما لو أنك عرفتهم من قرب أو عاشرتهم لسنوات أو أشهر، لعرفت عنهم أشياء كثيرة، تقرّر معها إخراجهم من قائمة الأصدقاء.
عندما نبحث عن وظائف أو أعمال جديدة، سواء أكانت في شركات أم متاجر أم مصانع أم مدارس، فإننا نحرص على كتابة جملة "لدينا القدرة على التواصل الاجتماعي مع الآخرين"، لم نفكر يوماً أن نكتب أننا انطوائيون نوعاً ما، وصامتون، وقادرون على التفكير الهادئ.
قد نبقى لسنوات طويلة ونحن نبحث عن عمل، لأنّ شخصية القرن الحادي والعشرين لا تبحث عن الإنسان، بل تبحث عن الإبهار والخفة، والأسطح اللامعة.