هل صنعت المقاهي مكانة باريس؟
في النصف الثاني من كتاب "القهوة والأدب" لجيرار جورج لومير، ثمّة إطلالة خفيفة عن القهوة والمقهى في بلاد المغرب، بين الجزائر والمغرب الأقصى، مع تاريخ المشاهير من الكُتّاب الذين كان للمقهى في حياتهم الخاصة والأدبية حضور كبير.
ولعل الثلاثي الأبرز الذي ارتبطت أسماؤهم بهذه الأمكنة، هم الروائي المغربي محمد شكري، وصديقاه الكاتبان الأميركي بول بولز، والفرنسي جان جينيه، اللذان عشقا مدينة طنجة المغربية وعاشا فيها. طنجة البحر واليابسة، الفقر والغنى، مقاهيها، عوالمها الداخلية... أحد الأمكنة التي أمسكت بتلابيب كتّاب أجانب أحبّوا الحياة فيها والكتابة عنها وفيها. هي الأمكنة، رغم فوضاها، تمارس أحياناِ إغواءً وسلطة لا يمكن تفسيرها.
أما في باريس فتأسيس المقاهي يشبه "ولادة شعب الآلهة السوداء"، كما قال الكاتب عن انتشار عدوى المقاهي مع بداية التواصل مع الأتراك في القرن السادس عشر. لكن هل كان الانتشار على طريقة "نسخ ولصق"؟ وأنت تقرأ الكتاب تنتبه إلى ملاحظات مهمة قد تكون فيها إجابة عن هذا السؤال، منها:
(1): إشارة لافتة من الكاتب إلى الفرق بين مقاهي الشرق ومقاهي الغرب. في الشرق كانت مكاناً للشعر والقص والموسيقى، فيما طغى عليها في الغرب تناول الأخبار وتبادل الأفكار والأفكار المعاكسة.
(2): تطوّر المقاهي وعلاقتها بنشأة الصحف، كصحيفة "الكازيت" التي تأسّست في باريس سنة 1631.
(3): تمايز المقاهي عن الكباريهات بفعل طبيعة اهتمامات روّادها الفكرية والإخبارية العامة خاصة، وهو ما جعلها تتطوّر لتصبح فعلا "مدرسة للمعرفة"، للعامة والخواص بتعبير الكاتب.
(4): الحضور اللافت للمرأة في المقاهي مع بداية انتشارها. لكن هذا الحضور تراجع مع ازدياد اهتمام مرتاديها بالفكر والأدب (ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟).
(5): ما أثارته المقاهي من قلق السلطة نتيجة الحوارات السياسية التي كانت تحتضنها، إلى درجة تحوّلها في بعض الأحيان إلى مركز للمعارضة السياسية، وهو ما زاد من رقابة السلطة على هذه الفضاءات.
(6): علاقة بعض المقاهي بالمكتبات، فهذه الأخيرة فتحت أجنحة لها داخل المقاهي، ما حوّلها إلى فضاءات للقراءة أيضا، لتصبح الكتب من بين مواد النقاش، إضافة إلى الصحف.
الأمكنة، رغم فوضاها، تمارس أحياناِ إغواءاً وسلطة لا يمكن تفسيرها
من أهم المقاهي في ذلك الزمن هو مقهى حمل اسم "بروكوب"، فهل يمكن القول إنه أب المقاهي الباريسية؟
هو المقهى الأقدم، وقد امتدّ لأكثر من قرنين في أكثر من نسخة. من نسخة التأسيس في زمن الأب المؤسّس، إلى نسخ متأخرة، مروراً بنسخة الابن الطبيب والمسرحي.
شبه الكاتب هذا المقهى بأول مكتب أكاديمي، وكان صاحبه من نبلاء باليرمو، أسّسه في ثمانينيات القرن السابع عشر. وقد مرّ بالمقهى في بداياته عدة شخصيات، منهم جان دو لافونتين.
في النسخة الثانية، مقهى بروكوب الابن، تعمّقت وتوّسعت شهرة المقهى وعلاقته مع الثقافة، خاصة أنّ الابن كان طبيباً وكاتباً مسرحياً، وقد عرَّفها الكاتب بإمبراطورية بروكوب الابن. كيف لا؟ وقد كان من روّادها فولتير الذي كتب مسرحية المقهى من وحي مقهى بروكوب، وجان جاك روسو صاحب "العقد الاجتماعي" (لا تنزعجوا من هذا الصوت. إنه صراخ المعلم، في المقهى، وهو يجيب أحدهم ممن لم يفهموا فقرة في الكتاب. آه أيها المعلم محظوظ أنت لأنك لست معنا اليوم).
بعد موت الابن، أصبح المقهى يسمّى "زوبي"، وحافظ على توهجه وارتباطه بالثقافة والسياسة إلى أن أصبح عنواناً للثورة الفرنسية، حسب ما ذكر الكاتب، إذ كان مذاق قهوة "سان دومينغ الحاد، الذي أحسّ به كل من بوفون وديدرو وروسو، يضيف الحرارة إلى نفوسنا الحامية، ونحن نرى الأنبياء مجتمعين في الصالة الداخلية لبروكوب، الذين كانوا يبصرون في المشروب الأسود الشعاع القادم لثورة 1789".
لم تنته نسخ مقهى بروكوب عبر الزمن رغم ما عرفه أحيانا من فتور، لكنها بقيت حاضنة لشخصيات أدبية وتيارات فكرية وأدبية مهمة: الرومانطيقية، الشعبوية، القاص أناتول فرانس، الشاعر بوسان، الشاعر بول فيرلن، أوسكار وايلد... وغيرهم من أسماء كثيرة غير معروفة راهنا.
كما بقي المقهى عنواناً ومكاناً لحوارات الفكر والثقافة والعروض المسرحية، وأيضا مكانا لاستعادة تاريخه عبر رموز فكرية وأدبية، فهذه طاولة فولتير والأخرى طاولة فيكتور هوغو... يتسابق الروّاد للجلوس إلى إحداهما، كأنهم يتحلقون حول شخصية من تلك الشخصيات الأدبية والفكرية، وكلّ ذلك حتى حدود بداية القرن العشرين.
"بروكوب" واحد من أكثر من ثلاثين مقهى باريسياً ذكرها الكاتب، ولكلّ مقهى حكايته، منها مقهى "بوسكيه"، الذي كان الطموح الوحيد لروّاده من الشعراء يتمثل في التغزّل بزوجة صاحب المقهى السيد رومان. وقد جاء في الكتاب: "يقول أحد المؤرخين: كانت مدام رومان تحرك مشاعر غير عادية، إذ إن والت سكوت أُغرم بها حدّ الجنون وعندما توفي زوجها، التجأت مدام رومان الى الدير واختفت إلى الأبد".
تاريخ المقاهي تاريخ طويل من الأسماء، شخصيات وأنهج وشوارع وعنوان لتحولات ثقافية واجتماعية وسياسية ومعمارية
ويجب ألّا ننسى مقهى les deux maggots، وهو إحدى علامات القرن العشرين في باريس التي احتضنت جلّ رموز الثقافة الغربية في هذا القرن من فرنسيين (أبولينير، بروتون، أراغون، جان بول سارتر، سيمون دو بوفوار...) وأجانب زائرين منفيين (أوسكار وايلد، جويس، بيكاسو، ألفريد دوبلن الألماني صديق كافكا وبريشت...) من مختلف المدارس الفكرية والفلسفية والتشكيلية، والتي كانت نتاجاً لترّسخ الحداثة من جهة، ولأهوال حربين عالميتين وصراع أيديولوجيتين من جهة ثانية.
في هذا المقهي ولدت السريالية والوجودية، واحتُضن المنفيون من الكتاب والرسامين والمثقفين، ليكون رمزا لكوسموبوليتية باريس. مقهى رمز، حمل كلّ ألقاب الفرادة والتميّز: المقهى المعجزة، المقر العام، مقهى مفترق الطرق، المركز العصبي للحياة الفكرية في باريس...
وأنت تقرأ عن هذا المقهى، تستعيد معرفتك بكلّ من مرَّ به، وتُعيد تشكيل فيلم أو لوحة لخمسين سنة من الحياة، بتفاصيلها: شخصيات أدبية وشعرية متنوعة، صراعات فكرية حادة ومبدعة، مدارس تشكيلية نوعية، أنشطة ثقافية فريدة بين صحف ومجلات (مجلة نثر وشعر، ليتراتور، بيفور..) وإصدارات إبداعية وجوائز باسم المقهى.
أكثر من ثلاثين مقهى باريسيا ذكرها الكاتب، وهي مقاهٍ عريقة تأسّس أغلبها بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.
تاريخ المقاهي تاريخ طويل من الأسماء، شخصيات ونُهُج وشوارع وعنوان لتحولات ثقافية واجتماعية وسياسية ومعمارية.
في الكتاب أيضاً، تفاصيل كثيرة عن المقاهي والتحوّلات المرتبطة بها وانطباعات متعدّدة للكثير من رموز الأدب والثقافة، كبلزاك وفلوبير وهنري جيمس...، إضافة إلى تفاصيل عن حياة أصحاب المقاهي والزوّار، والمعمار، والديكور الداخلي، والطاولات، والكؤوس والأواني وطريقة تقديم القهوة وغيرها... وهو ما جعل من الكتاب سردية شبه متكاملة عن القهوة والأدب.