هابرماس والحرب على غزة
بعد أكثر من شهر على عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل، قام الفيلسوف الألماني المعاصر، يورغن هابرماس، بكتابة بيان مقتضب حول موقفه من الحرب على غزّة، وقد كان تلقِّي هذا البيان من المثقفين العرب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مستهجنًا، وخاصة أنّ الممثل للجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت النقدية تجاهل العدوان الصهيوني وآثاره التي تحوّلت إلى حرب إبادة وتطهير للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والضفة الغربية.
إنّ هذا الموقف الذي يمكن أن نطلق عليه في أخفّ أحواله، الموقف المُتجاهِل، خاصّة وأنّ هابرماس قد ظلّ الداعي الرسمي لمشروع الحداثة والقيم الكونية والإنسانية في الفلسفة والسياسة المعاصرة في أوروبا وألمانيا.
سأقوم هنا بقراءة تحليلية من أجل فهم بيانه وتناقضاته:
كما صار رائجاً في الخطابات الإعلامية والصحافية والسياسة، فدائماً ما يبدأ المتحدّث الغربي بتجريم حماس لإثبات أنّه ليس معاديًا للسامية، وأنّه داعم للقضية الصهيونية، وهابرماس لا يختلف عن هذا السياق، فقد بدأ بيانه بتجريم "حماس"، عبر وصف هجومها بالهجوم الوحشي غير المسبوق. وفي هذا، هو يتناسى السياق العام الذي وقع فيه الهجوم، وظروف الحصار لعقدين من الزمان، والاعتداءات الإسرائيلية الهمجية والمخالفة لكلّ شروط الحرب والمعاهدات المبرمة، وكأنّ هجوم حماس كان من فراغ، ومجرّد ردّ فعل من دون سوابق، وهو في هذا لا يعطي للمقاومة الإطار العام الذي نفذت فيه هجومها، وإن كانت قد أخطأت في الهجوم على المدنيين إلا أنّ تجاهل هابرماس للسياق العام، وقوله أنّ الوضع الحالي كان من إنتاج حماس وحدها، لا إسرائيل وانتهاكاتها المتواصلة، وقتلها لما يزيد عن 12000 مدني (حتى الآن)، أغلبهم من الأطفال والنساء، وتوصيفه لما فعلته حماس بالمجزرة وعدم تسمية ما تفعله إسرائيل بأيّ شيء، وكذلك قلب المفاهيم بقوله إنّ ما تفعله حماس هو حرب إبادة، يدل على قراءة انتقائية ومتحيّزة ومركزية غربية، فحماس ليست لديها، لا القدرة العسكرية، ولا البشرية، لكي نسمّي ما سببته من أضرار، حرب إبادة، ولكن ما تفعله إسرائيل هو حرب إبادة، لكن هابرماس يقوم بإزاحة هذا المصطلح من إسرائيل إلى حماس، وهذا تلاعب واضح بالمصطلحات، هدفه تبرير ما تفعله إسرائيل الآن بالمدنيين العُزَّل، ثم ينتقل إلى القول إنّه بالرغم من كلّ ردّات الفعل المتعارضة حول هذا الهجوم إلا أنّه يجب أن نُسلِّم بمبادئ لا تقبل الخلاف، أي بمبادئ كونية فما هي هذه المبادئ؟
قراءة انتقائية ومتحيّزة ومركزية غربية، فحماس ليست لديها، لا القدرة العسكرية، ولا البشرية، لكي نسمّي ما سببته من أضرار، حرب إبادة
هي التضامن مع اليهود الألمان، وهو في هذا لا يذكر التضامن مع الفلسطينيين المدنيين الضحايا وكأنّ دماءهم لا تستحق التضامن، وهو بهذا يناقض مبدأه الكوني في التضامن، فلماذا يتضامن هابرماس مع اليهود الألمان الذي يمرون بحملات معادية للسامية في ألمانيا الآن، ولا يتضامن مع الأبرياء الفلسطينيين؟
إنّ هذا الانتقاء الفج مخافة أن يُتهم بمعاداة السامية، هو دليل على عدم قدرته على رؤية وجهة نظر أخرى، أي من منظورنا العربي، وكلّ ما يُفكِّر فيه هو محاولة نفيه لتهمة معاداة السامية، وكأنّ هذا البيان هو بيان تبرئة ذمة من قضية اليهود، كما أشار إلى أنّ مبدأ تناسب هجوم حماس وردّ الفعل الإسرائيلي هو عبارة عن مبدأ توجيهي فقط، أي ليس بمبدأ أساسي تجب محاسبة جرائم حرب إسرائيل وفقه، كما أنّه لا يلتفت إلى ما تفعله إسرائيل الآن بالفلسطينيين المدنيين من تنكيل واضطهاد إلا بكلمة واحدة هي: القلق، أي على مآل ما سيحدث لهم، وهو في هذا يتغافل عن عدد الضحايا والخسائر التي قُدِّرت بملايين الدولارات والوحشية الفائقة للعدوان الصهيوني وحرب الإبادة الواضحة، ومحاولة التهجير القسري، والحصار المتواصل، ومنع المساعدات الإنسانية والوقود، واستهداف البُنى التحتية، والمستشفيات، والمساجد...
مشكلتنا ليست مع اليهود، وإنّما مع الصهيونية والاحتلال الاستيطاني والحرب المتواصلة والجرائم الإنسانية وغيرها
وبقوله إنّ: ما تفعله إسرائيل ليس بحرب إبادة، ومن قال غير ذلك فمعايير حكمه زائغة لأنّه لا يتضامن تضامنًا غير مشروط مع ردّ فعل إسرائيل المُبَرَّر كلية في حربها على حماس التي تسعى لإبادة اليهود في إسرائيل، نكون أمام ازدواجية واضحة من هابرماس. كما أنه يعود مجدّدا إلى تصرّفات إسرائيل، ويقول أنّه مهما كانت أفعالها، فهذا لا يبرّر ردود الفعل المعادية للسامية في ألمانيا وغيرها، وهو في هذا قد أصاب، فمشكلتنا ليست مع اليهود، وإنّما مع الصهيونية والاحتلال الاستيطاني والحرب المتواصلة والجرائم الإنسانية وغيرها، وهو يعود للانتقاء هنا مرّة أخرى، ففي تاريخ الإسلام والعرب لم يتعرّض اليهود للاضطهاد، وإنّما كانوا أقليات لها حقوقها على خلاف أوروبا التي قادتهم إلى المحرقة، فمعاداة السامية هي مشكل أوروبي مسيحي، وليس بالمشكل العربي الإسلامي، وهو ينساق هنا إلى تبرئة أوروبا ومسح عقدتها من اليهود على حساب القضية الفلسطينية، ثم يُقدِّم امتيازاً لإسرائيل، أي للصهيونية في الديمقراطية الألمانية باعتبارهم معترفا بهم وكرامتهم الإنسانية محفوظة، وذلك على حساب كرامة الفلسطينيين، وأنّها تستحق حماية خاصة، أي بدعم حربهم على الفلسطينيين المدنيين الأبرياء، وذلك تكفيرًا لجرائم النازية التي ارتكبتها ألمانيا بحقهم. ويقول إنّ هذا الاعتراف والحماية والدعم، أمر أساسي في السياسة الألمانية، بعدها ينتقل ليقول أنّ الحرية والسلامة الجسدية والحماية من التشهير العنصري، هي حقوق غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي، وهو ما نُسلِّم به إلاّ أنّه يتكلم هنا حصرًا على اليهود الذين يتعرّضون لمعاداة السامية في ألمانيا، ويواصل تجاهل الجرائم الصهيونية بحق المدنيين الفلسطينيين، وكأنّه يطابق بين اليهود والصهيونية، وأيُّ نقد للصهيونية هو معاداة للسامية وهو موقف مخجل من فيلسوف في مكانته.
في الأخير، يمكن أن نقرأ موقف هابرماس من الحرب على غزّة باعتباره موقفاً داعماً للصهيونية وحربها على قطاع غزّة والضفة الغربية، وذلك ضمن نقده لمعاداة السامية الصاعدة الآن في ألمانيا، ومناطق أخرى من أجل تبرئة أوروبا على حساب دماء الفلسطينيين الأبرياء.