نكتب إليكم من العدم

17 أكتوبر 2023
+ الخط -

ها نحن مرّة أخرى نكتب إليكم، لكن هذه المرة من العدم. 

من غرفة الأخبار داخل التلفزيون، حيث نشاهد الموت حيّاً على الهواء مباشرة واضحاً دون لبس أو مراوغة. 

كلّ دقيقة أخرى تحمل في ثناياها أسىً آخر. جريحاً أو شهيداً أو قذيفة. وقد لا تبلغون نهاية هذا المقال حتى يفارق عدّاد الموتى ما كان عليه عندما بدأتم القراءة. 

حجم الموت الذي يصبّ في غرف الأخبار هذه الأيام عصيّ على الاستيعاب. وتلك العبارة ليست مجازاً. ولم لا يكون الأمر كذلك؟ إنّه موسم الموت الفلسطيني المجاني، وقبله كان السوري والليبي والعراقي والسوداني. والقائمة تجرّ قائمة أخرى، وصور القتلى لا تتوقف. حتى وجوههم بالكاد تتغيّر إن أمعنتم النظر فيها، ولحسن حظكم لا تفعلون. 

هنا حيث نجلس خلف الكاميرات أو أمامها، نبدو أشبه بالآلات الخرساء مهما علت أصواتنا. نقيس المسافة بين الموت والموت الذي يليه بعيون من حجر، ولا أحد يبكي في غرف الأخبار. هناك اتفاق غير معلن عابر للمهنة، إن شئتم، حول هذا الأمر، فاللحظة ساخنة، لكن الرأس بارد، وهو أول شروط الصحافة، هي ليست مجرّد مهنة أصلاً، إنها طريقة حياة كاملة، إدمانية وقاتلة معاً.  

تتوالى تباعاً المشاهد "القاسية" التي يتحتّم علينا حجب وجوهها ودمائها وحتى أشلائها عنكم. نعم، نشاهدها كلّها، لحظة بلحظة، كادراً بكادر. نحدّق بعيون أبطالها الصامتين، ثم نحجبها سريعاً حفاظاً على صورة الموت المقدّسة، وخوفاً من اعتياده إن أصبح مجانياً لتلك الدرجة. نترك لخيالكم إكمال الصورة إن استطاع ولن يستطيع، لحسن الحظ طبعاً. 

أما نحن، فتلك الوجوه والصور تنطبع داخلنا، مرّة واحدة، وإلا فالأبد. لا فكاك منها. تعود لتطرق بابنا في الليل، بعد شهر أو اثنين أو بعد سنوات، في ليلة صيف رائقة، أو أمام مشهد من فيلم صامت، أو في صباح عذب اعتراه صمت عابر، لكن تلك ليست لحظة عابرة، مهما حاولنا استخدام أدوات المهنية والموضوعية إزاءها، وهل في الموت موضوعية أصلاً؟ إنه عمل ذاتي بامتياز، وكذا التعامل معه. 

في وجه الفلسطينيين والعرب يقف العالم كله اليوم بوقاحة فاحشة. لا أحد في الغرب يكلّف نفسه عبء سوق مبرّر لما تفعله إسرائيل في غزة أصلاً

لكن الأسوأ من الموت هو العجز، العجز عن تفسير هذا القتل الواضح كشمس في يوم قائظ. ولنحكِ قليلاً في السياسة، أو فلنقل في البديهيات. 

في وجه الفلسطينيين والعرب يقف العالم كله اليوم بوقاحة فاحشة. لا أحد في الغرب يكلّف نفسه عبء سوق مبرّر لما تفعله إسرائيل في غزة أصلاً. لا داعي لذلك. الآلة الرسمية الغربية تسحق كلّ سردية لا تناسب سرديتها المركزية، تردّد بصوتٍ عالٍ: "المجد لإسرائيل، ولإسرائيل فقط، وليذهب الآخرون إلى الجحيم". وكأنّ الفلسطينيين، والعرب، أولئك الذين سحق الغرب ماضيهم وحاضرهم لا شيء، مجرّد وزن زائد في كتب التاريخ، ممثلون ثانويون لا شأن لهم في صلب الحكاية، في تصاعدها أو تراجع وتيرتها.

من أين أتت هذه العنجهية الأوروبية كلّها؟ وأين تلك الشعارات التي رُدّدت على مسامعنا كدساتير مقدّسة للحفاظ على كرامة الإنسان صباح مساء؟ أين هي قيم المساواة والحرية والعدالة التي بُنيت عليها تلك الحضارات والأمم؟ 

ربما خُدعنا جميعنا. لقد ضحكنا من سخرية جورج أورويل حين كان يجب أن نبكي. لقد قالها في وجهنا دون مراوغة أو تجميل: "جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها"، وذلك هو العدم المطلق. 

زاهر عمرين
زاهر عمرين
إعلامي سوري