نغمات سياسية متداخلة
محمد القيق
تختلط في الآونة الأخيرة أمزجة سياسية تحمل المصالح تارة، والبعد الفكري تارة أخرى، حيث يلتقي البعيد مع القريب، ويتنافر الحلفاء، ويتكرّر الخبر، وتتغيّر الأسماء وألوان الدول، تهدأ بعض الصراعات (ولو شكلاً أو مؤقتاً)، وتنفجر أخرى ليست في الحسبان.
إذا، تتداخل الملفات وتشترك الدول في نسيج سياسي جغرافي متناقض، متصالح ومتنافر، حتى بات التعقيد سيد الموقف، وليس الربيع العربي هو الذي أبعد المسافات أو قلّص العلاقات، فهذه حالة عربية تاريخية لا تكمن بدايتها في الحرب الإيرانية العراقية، ولا حرب الخليج بحلقاتها المتتالية، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي، امتداداً للحالة الدولية التي تنعكس لزاماً على هذه النغمات السياسية التي نتحدث عنها هنا.
القضية الفلسطينية حاضرة في كلّ هذا المشهد المعقّد، سواء بالقول أو الفعل، وسواء متّفق عليها أو مختلف في أولويات مراحل حلّها، فالجميع حججهم حاضرة وعنوانها أنّ فلسطين قضيتهم الأولى، فيما على أرض الواقع، ثمّة حصار لغزة وإهمال لمخيمات اللجوء، وتجاهل لممارسات المستوطنين والاستيطان. وعلاوة على ذلك، لا قيمة لجواز سفر فلسطيني، في الوقت الذي يتسابق فيه الجميع لكتابة بيان الاستقلال لشعب مزّقه وأتعبه وهمُ الإسناد، وأصبح في طيّ الغياب.
تأتي في هذه الصورة تناقضات الفكرة أو المبدأ ما بين سورية، نظاماً وثورة، ومصر، منقلباً ومنتخباً، وليبيا، تدخلاً وتمزّقاً. وفي تونس، حكاية القانون النافذ بفوضى الأمن وتهميش الصوت، فبات العبء كبيراً جداً على قيادة المقاومة الفلسطينية التي لم تُغلق أبواب قطر ولا سورية ولا إيران ولا الجزائر ولا تركيا فعلاً في وجهها، بل كانت سنداً بشكل أو بآخر فوق الطاولة. حديثنا هنا بعيداً عن التفاصيل، بينما نغمات سياسية لدول أخرى تناقضت علنا مع طموح الشعب الفلسطيني، فراح بعضها نحو التطبيع في توقيت يخدم إسرائيل، وأخرى إلى مواجهة المقاومة بحصار من أعالي البحار، أو السياج، أو قمم أمنية، لم يُسجّل فيها تطبيق لبند واحد، قِيل إنّه في خدمة القضية.
نغمات سياسية طغت عليها المصالح والملفات الأمنية، جعلت الأمور متداخلة بين مقاومة تريد التطوير للتحرير والارتقاء بالقضية، وبين عيش كريم لمواطن ينشد تعزيز صموده، وإسناداً من قريب وبعيد. وفي هذه المعادلة، يتمترس الشعب الفلسطيني خلف قوانين دولية تجاهلتها قوة الراعي للاحتلال، وأهملتها هشاشة الجامعة العربية، وحوّلتها اتفاقية أوسلو إلى ذاكرة لا يتعدّى ذكرها أرقاما في خبر أو مقال، وفي أفضل أحوالها تقرير لحظي يغيب في أدراج الأمم المتحدة.
لا يُراد للشعب الفلسطيني أن يرتفع صوته، ولا أن يكسر حصاره، أو ينشد حقه
حتّى في فلسطين، ثمّة انقسام حول هذه النغمات، وذلك على وقع منع انتخابات تفرز خادماً في مؤسسات برلمانية ورئاسية، وعلى وقع تنسيق أمني أفرزته اتفاقيات قِيل، يومها، إنّها لتعزيز القرار الفلسطيني المستقل، فلا قويت بعدها حاضنة العرب، ولا تعزّز استقلال الفلسطيني ببرمجة ثورية وهيكلة توافقية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليصبح لدى الفلسطيني شعب ومقاومة في كفة؛ وما يسمّى قيادة فلسطينية تحظى بقبول أميركي ومفروضة على دول ومنظمات عربية ودولية، في كفة أخرى.
وهنا يكمن الجهد المهدور والزمن المتوقف والدم النازف والأرض الملتهمة، فعلى وقع هذه النغمة لا يُراد للشعب أن يرتفع صوته، ولا يكسر حصاره، ولا ينشد حقه، فالإجراءات التي ذكرناها سابقا، من حصار وفيتو على تطبيق القرارات ومنع أميركي للانتخابات، كفيلة كلها، أو جزء منها، بفرز واقع جديد وترتيب للنغمات.
وفي هذا السياق، شهدنا مؤخراً تغيرات جوهرية في محاولة من المقاومة للدخول إلى حلبة السياسة الدولية لتبرمج ساعتها بالتوقيت الإقليمي والسياسي، فكانت لديها مراجعات في الملف السوري، وتطوير مع حزب الله في غرفة مشتركة، وتعزيز للعلاقة العلنية المتكرّرة مع إيران ومحاولة اختراق في الخليج... تحاول تلك النغمة أن تفرض نفسها مع تطوّرات عالمية ليست بعيدة عن التوقيت الروسي أو متجاهلة لعقارب الساعة الأميركية.
ترتيب دبلوماسي وسياسي أخذت تعمل عليه المقاومة لتخترق حاجز لاءات الرباعية أو المحرّمات الأمنية التي تفرض نفسها بسبب من بروز محاولات لإحداث تغيّرات عالمية، من قطب أحادي حاصر وفَتن وأَحدث الفوضى الخلاقة في كلّ مكان، إلى تعدّدية قطبية لا تروق لمن دفن الربيع العربي أو تغنّى بفلسطين (شكلاً) كقضية، وفتح بلاده لإسرائيل، ومن على أرضه أعلنت الحروب وبدأ قتل الأطفال، وما زال الجرح ينزف باحثاً عن توقيت يُعيد الهوية، أو على أقل تقدير يُحدث نغمة سياسية تكسر حاجز الإحباط في ملف القضية.
وفي المحصلة، إنّ إعادة تشكّل العلاقات العربية، والتحالفات الدولية، ونتائج الانتخابات التركية، والأزمة الاقتصادية العالمية، وتطوّر المقاومة في فلسطين وفتح جبهة الضفة الغربية منذ عام ونصف، وتلاقي الساحات مع تجاوب في المشهد الإقليمي... كلها نغمات تداخلت، وبالتالي باتت جزءاً من التوقيت السياسي الدولي، وإن لم يظهر جلياً لبعضنا تحرّك عقارب الساعة الجديدة أو سماع دقاتها ونغماتها.