نجاح وحَّد أمة
أُسدل الستار على نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت بقطر. وما زلنا نعيش نشوة هذا الانتصار المعنوي الذي أعاد لذواتنا إحساسها بفخر الانتماء. وأننا إن انشغلنا ببناء الذات أبهرنا العالم، وجعلناه يرضخ لقِيمنا وأولوياتنا. أو على الأقل جعلناه ينتبه لهذه البقعة من الأرض العربية. لقد غيرت قطر نظرتنا لواقعنا العربي.
إن النجاح لا يأتي من فراغ، وسُبله قد يُدركها الجميع، لكن الأخذ بها لا يتأتى إلا لذوي العزم وأصحاب الهمم. وقائع كثيرة أبهرتنا بها النسخة الحديثة من كأس العالم لكرة القدم 2022 بقطر، بداية من حفل الافتتاح الذي كان ناجحاً بكل المقاييس، والذي شد إليه الأنظار وأسال الكثير من المداد ومعه عبارات الإعجاب. إضافة إلى البنية التحتية التي استثمرت فيها الدولة لتيسير حضور الملايين من مشجعي ومحبي كرة القدم وتضمن بالتالي نجاح هذه النسخة التي تُنظم لأول مرة في بلد عربي.
قطر إذن كانت أمام تحدٍّ كبير، بعد كثيرِ انتقادات تلقَّتها منذ الإعلان عن استضافتها للمونديال. تحدٍّ زاد من إصرارها وأشعل فتيل النجاح في مهمتها، التي لم تكن بالهيِّنة، ما انعكس نجاحاً على فعاليات المونديال. قطر التي وقفت سدّاً منيعاً أمام تعنت الغرب، وبعض تجبّره. وانقلب السحر على الساحر، فقد لاحظنا إعجاب الآخر بكرم العرب، تلكم الأصداء تثلج الصدر وتُعيد منظومة الأخلاق لمسارها الصحيح الآسر المُنظِّم للعلاقات الإنسانية المبنية على الاحترام والسماحة وتقديم مصلحة الأغلبية على أنانية الأفراد.
قطر إذن كانت أمام تحدٍّ كبير، بعد كثيرِ انتقادات تلقَّتها منذ الإعلان عن استضافتها للمونديال. تحدٍّ زاد من إصرارها وأشعل فتيل النجاح في مهمتها
وفي هذا الوسط، ومن بين هذه الأجواء، وأمام أنظار الملايين من محبي "المستديرة" لمع نجم منتخب تحدى نفسه، وبنى لذاته مساراً مُغايراً عن باقي المنتخبات المُشاركة، منتخب حمل عبء الفوز في ظروف غريبة (مدرب بدأ منذ أشهر مع المنتخب، لائحة اللاعبين التي حملت أكثر من علامات استفهام، والكثير من اللغط). لكن الأسود فاجأوا الجميع وحققوا مراتب متقدمة؛ ووقفت مسيرتهم في نصف نهائي المونديال. هذه النتائج أذكت فينا روح الأمل في الرِّيادة بعيداً عن أي تطبيل أو مُفاخرة.
منتخب استثمر النِّية وأخذ بأسبابها، أي الإيمان بالنجاح والتشبث بسُبله. ليُرسل الناخب المغربي، بلهجة مغربية قريبة من الإنسان البسيط المطحون أمام إكراهات الحياة أن الحلم وتحقيقه ممكن، يحتاج إلى الصدق في الإمساك بخيوط اللعبة وتحريكها لصالحك بجد وذكاء وثقة في النفس وأن المستحيل ليس مغربياً. بل إننا يجب أن نستثمر في الإنسان قبل أي شيء.
لا شك أن الجميع لاحظوا العلاقة الإنسانية العميقة التي تجمع المدرب بالمنتخب ولاعبيه وكيف كان البكاء على صدر المدرب مكسباً إنسانياً حققه الركراكي مع (وليداته). صدّق موهبتهم وأذكى فيهم روح التحدي، فانعكس هذا على العطاء. وكم سمعناه يكرر "باقي فينا الجوع". وانتقل الجوع للفوز كخيط من نور نحو قلوبنا كمتابعين، وفي كل مرة نتشبث بالفوز لا أقل.
وهكذا عاش "أسود الأطلس" تحت ترف الهُتاف المستميت "سر سر سر". وسار نحو المُربع الذهبي بخطى من ثبات، وبشباك نظيفة إلا من هدف سُجِّل بالخطأ. منتخب الأسود أعاد للذهن صفة الهيمنة في التحكم بزمام الأمر والسيادة والاحتكام إلى منطق القوة. والاقتتال من أجل الظفر بمراتب مُتقدمة وأمام الفرق العالمية، التي عُرفت بتجربتها الناجحة ومسارها الكُرويِّ المتألِّق (بلجيكا وإسبانيا والبرتغال). ولم يكن النجاح محض صُدفة ولا ضربة حظ في لحظة تجلِّ بل كان قتالية. كان روحاً وطنية قلّ نظيرها.
كانت الانطباعات الأولى مع كل تحية للعلم وأمام هتاف الملايين من المُشجعين، في مشاهد واضحة تحمل مفهوم "إخوتي هيا للعلى سعيا، نُشهد الدنيا أن هنا نحيا". كيف لا ولحظات التجلي تلك كانت تشحن فؤاد كل مغربي في أنحاء الدنيا. وليترك كل لاعب منهم بصمته، من بداية اللُّعبة، وحتى دقائقها الأخيرة. صمود في الملعب ووفاء لرسالة الفريق، وإخلاص لروح الجماعة.
وأبهروا العالم ليس بلعبهم فقط وإنما بقوة العلاقة الأسرية التي تجمع الإنسان العربي بأمه. ولحظات مُشرِقة بالعودة للأم، منبع إن تشبث به الإنسان أفلح، إضافة لكونها وصية الرسول الأكرم: "أمك ثم أمك ثم أمك". فقد رأينا أغلب لاعبي الفريق يُتوِّجون فرحتهم بتحية الأم، أمهاتنا جميعاً، عناق وقبلات وطلب للدعم. أمهات تتجلى فيهن البساطة ويسكنهن حب الأبناء وتتربع على ملامحهن ابتسامة الفخر، وتتلو قلوبهن آيات الرضى تُجاه أبنائهن.
فهن الجميلات، كما عبَّر الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "الجميلات هن القويات، يأس يضيء ولا يحترق". لقد أخذن بأيدي أبنائهن نحو التتويج والإعلان في ملأ. أن الفقر لن يكون باباً للخذلان، وربما تلوَّنت به طريق الصعاب، لتنتهي عند أمنيات لا تقف طي الكتمان ولا تختفي مع الأيام.
وعرفوا أن دوام النِّعم، يأتي من شكرها. فرأيناهم يسجدون جماعات للوهَّاب. وأكدوا أن الحياة لا تستقيم بشقِّها العملي فحسب، بل تحتاج لجانب معنوي روحي. هي تلكم اللحظة، لحظة الانعتاق والتوحد بين الإنسان وربه. حين يمرِّغ الإنسان جبهته في التراب والأرض، في امتنان لرب الكون. نعم، كنتم في الملعب، كما في تصريحات أغلبكم، رسائل محفِّزة لشباب يعيش الإحباط ويفقد حس الإيمان بالذات.
وزاد إشعاع الانتشاء بالإنجاز المغربي، وذاع أثره وشاع صيته، حين وجد الاحتضان العربي والأفريقي. وحققنا المستحيل بعدما وحّد هذا الشعور أمة من شرقها إلى غربها، وأحيا الإحساس بالانتماء المشترك. وتأكدنا بالملموس أننا كالجسد الواحد إذا مرض عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.