نبدأ حين نعتقد أنّنا انتهينا
أُحبُّ كلّ شيء في نهايته؛ وكأنّي أمسك عنقود عنب طازج وأضع حبّاته واحدة تلوَ الأُخرى على فخذي وأغفو على صدر الشوق. هكذا، حتى يمرّ الزمن طويلاً وتأكل كلّ دهور الزمن وتشرب، وتصير نهراً من نبيذ تعتّق وانسكب بكلّ الانتظار واللهفة.
أحبّ كلّ شيء في نهايته، وأحبّ توثيق اللحظة التي تفصلني عن آخر المشوار وبداية تفكيري بمشوار آخر مع موسيقاي، صوري، وأصدقائي. كثيراً ما كنت أوثّق لحظاتي الأخيرة على صفحات كتاب أعجبني بطبع قبلات من أحمر شفاهي عليه، لأُكمِلَ مشهد القبلة في موعدٍ غراميّ مع آخر صفحات كتاب آخر.
النهايات ذكية، لمّاحة، لا تصعب إلّا على من يحصي نجوم الليل حتى تنام أهدابه حدّ الغرق. النهايات ناضجة، قليلة الكلام، كصبية تبلغ الثلاثين من غِوىً سِكّير؛ يشربه كلّ من يريد أن يبتلع رأسه، ويترك قلبه ثَمِلاً حتى آخر شرش دفنه في أرض الماضي والذكريات. أحبُّ نهاية البيوت بشرفاتها ونوافذها. أُحبُّ نهاية صخب أصوات الناس في الشوارع وصداها الذي لا يتغيّر. أُحبُّ آخرَ التَّعب، آخر الطريق، وآخر الكلمات التي أختم بها ورقة بحثي في العمل، وآخر شفة في كأس ماءٍ مُثلج.
كسجادة قديمة هو قلبي، مشت عليها أقدام وقلوب عائلتي وأصدقائي طوال أيام عمري
أُحبُّ نهاية كحل عينيّ الأسود، نهاية تنورتي القصيرة، ونهاية أظافري على وجه حبيبي الذي يشبه أوّل الصبحِ وآخره. أُحبُّ نهاية الوجوه، نهاية تصفيقات المسارح، نهاية أغنياتي المفضّلة. نهاية النصوص السردية والشعرية التي تنتهي بشهقة وابتسامة. أُحبُّ نهاية الليل، نهاية الحكايات والمواسم، الأفلام والمطر. أُحبُّ نهاية السنة، نهاية الصيف والمراهقة، نهاية كتاب الحبّ والجنس، نهاية زجاجة عطري ومفاتيح البيانو التي تنادي لموسيقى الجاز في آخر بار في حارات هذه البلاد. أُحبُّ نهاية جذور الشجرة التي تدل على بدايتها في حقل منسيّ. أحبُّ نهاية صوت ضحكة أبي، نهاية جسد الأنثى ونهاية درب السفر للعودة إلى المنزل، نهاية خصلات شعر أمي الذهب.
أصبح شعوري للنهايات ليس كما عهدته. لم أعد أنظر إليها بالطريقة الشاعرية ذاتها منذ شهدتُ نهاية رحلةَ أخي في هذه البلاد. هذه النهاية التي لم يحبّها لا قلبي، ولا حضن أمه الذي كلّما كبر، ضاق عليه ليشبعه حناناً وعاطفة. لكنّي، لم أذرف دمعةً واحدة أمام عائلتي على فراقه عندما حملته قدماه خارجها منذ سنة، بل زغرَدَتْ دموعي سرّاً لأني أعرف بأنه سافرَ ليكسب لقمةَ عيشٍ وحالٍ أفضل.
أمّا الآن، فأنا أذرف أنهاراً من الدمع (علانية وسرّاً) لأنه قد وقعَ نظري على صورة من الطفولة تجمعني به، نضحك ونعانق بعضنا. هناك، حيث كانت أقدامنا صغيرة طرية، حافية، تداعب الأرض والسماء سوية.
اعتدتُ أن أبكي الجمال بكلّ ما أوتيت من دموع مالحة
سأستعدّ بعد وقت قصير لأطوي نهاية سنتي الأخيرة في هذه البلاد وسأمزّق آخر ورقة روزنامة عمري فيها. كسجادة قديمة هو قلبي، مشت عليها أقدام وقلوب عائلتي وأصدقائي طوال أيام عمري. كم يريد هذا القلب أن يتعلّق ويتدلّى على جدار سطح بيتنا لتنفضهُ عصا الشمس، وتتساقط منه الذكريات بضحكاتها ودموعها الشرسة؛ فترافقني مع كلّ حالٍ وترحال.
كم أتقنت في طفولتي ومراهقتي وحتّى هذه اللحظة، دور تجسيد النهايات. دور الباكية المولعة بذرف الدموع على مشهد حميميّ لقبلة أو عناق، رقصة تعبيرية رومانسية، مسرحية تحتفي بالحزن الجميل، موسيقى البلوز، صوت سميح شقير وهو يدور في دهاليز غرفتي الشتوية لينطق "ولا يوم جيتني وبإيدك ورد ولا يوم" ليخرج بعده صوت محمود درويش ويغرق في "يا ريتا، طويل هذا الشتاء وبارد".
أردتُ أن يَبكِيني أحدهم جمالاً عندما أصل أنا وحبيبي إلى نهاية أيّام عزوبيتنا وأُقبّلهُ يوم زفافنا، ليشير إليّ أحدهم ويقول لمن يجلسُ معهم: "كم أحَبَّتهُ!".
آهٍ، كم أبكتني رائحة تستحضر معها صاحبها أو موقف عزيز جمعني به، لتضعه في كأس خمر، وتقول لي: "غِبّي الكأس هذا بلا توقف، فهو ماء حضور الغائب". اعتدتُ أن أبكي الجمال بكلّ ما أوتيت من دموع مالحة. اعتدتُ أن أبكي الفرح أكثر من الحزن، كخيّالٍ راقصَ جواده على دروب طويلة شاقة، ومات من شدّة متعة الرقص.
أحببتُ نهاية كلّ شيءٍ يدفعني بعده إلى البكاء، الضحك، الجنون، الرقص أو حتّى الانتحار
كان أكثر من يشدّ على يد دموعي المسرورة هو فرح أُمّي الخجول عندما أزفُّ لها خبر تفوّقي في المدرسة واجتهادي في العمل، لأنظر إليها بعينين مليئتين بالدموع التي تتدفق كسيلٍ لا يعرف التوقف إلا عندما تمسحه يداها. كلّ من عرفني يجيد وصفي "بالدراما كوين" أو "إم قلب تشتوش" هذا، لأنّي لا أقوى على حمل عَبَراتي في مقلتيَّ، ودموعي دائماً ما تسبقني للتعبير عما بداخلي في حالتيّ الفرح والحزن. أما الآن، فقد أصبحتْ آلة الدمع حاضنةً لكلّ جزء من جسدي وتلافيف روحي وأنا أشهد على ما يحدث من نهاياتٍ في هذا العالم الجنونيّ.
أذكر يومَ بكيت على شاطئ البحر وأنا ممدّدة على رماله، مرميّة في آخر نوبةِ حنين إلى حبيبٍ قد انتهت علاقتي به. كان الليل حينها، شاهداً وحيداً واحداً على رقصة الدموع التي سالت نتيجةَ عطب شوقِ ونزف ذكرياتي معه. وليس بشاهد فقط، بل بمتفرّج ذوّاق، يصفّق بحرارة عند انحناء خصر الدمعة الراقصة على خدّيَ المسرح.
وعلى سيرة البكاء هذا كلّه، قرأتُ مرّة بأنّ "البكاء ليس مرادفاً للحزن، إنّه مرادف للامتلاء؛ ولذا يبكي السعيد، ويبكي الخائف، ويبكي المتحمّس، ويبكي الحزين". لكنّ ما يبكيني حقاً، ما يبكيني من داخل قلبي، أن يقال لي: "كم تشبهين أمك".
ها أنا عرفتُ لماذا أحببتُ نهايةَ كل شيء. أحببتُ نهاية كلّ شيءٍ يدفعني بعده إلى البكاء، الضحك، الجنون، الرقص أو حتّى الانتحار.