ميشال عون ولعنة الرئيس رقم 13
ما إن تسلّم الجنرال ميشال عون السلطة قبل ست سنوات، حتى أخذ يردّد أنّ لبنان ذاهب إلى جهنم. فهل يعني ذلك أنّ نبوءة أحد الضباط الفرنسيين قد تحققت؟ حينما خاطب اللبنانيين المحتفلين بقرب استقلالهم قائلاً: "أنتم الآن مسرورون، لكنكم ستندمون كثيراً، عندما يترك الجيش الفرنسي لبنان".
قبل أن تسير كرسي الرئاسة إليه، وفقاً لأنصاره في التيار الوطني الحر، أخذ هؤلاء يبالغون بقوة هذا العهد ومقدرته الفذّة على قيادة لبنان نحو الفضاء، بدءاً من العهد القوي، لدولة "بي الكل"، إلى "تكتل لبنان القوي"، إلى أن "كبّروا الحجر"، على حدّ وصف الكاتب بشارة خيرالله، حتى باتت مفردات التحدّي لا تفارق ألسنتهم، وتحوّل معهم هذا البلد الجميل إلى دولة من دول الموز.
لقد سبق للرئيس فؤاد شهاب أن جاء من قلب المؤسسة العسكرية، من دون أن تكون لديه تطلعات شخصية على حساب لبنان، كما هو حال صاحب العهد القوي. جاء شهاب دون أن يكون لديه حزب أو جماهير تنفخ فيه، بل دون أن يكون لديه صهر قوي يستقوي بسلاح خارج الدولة "يتصرف مع لبنان وكأنه جَلّ من جلول مزرعته"، وفقاً للكاتب سمير عطالله، يريد أن يُكسِّر رأس هذا ويُمرِّغ أنف ذاك، يمارس السادية بمواجهة الجميع، كلّ هذه العنتريات لم تكن لتحصل لولا شركاء السلاح القوي.
المشكلة الأساس لدى عون، أنه حلم بالعودة إلى قصر بعبدا، حتى لو على خراب لبنان
لذلك، استطاع شهاب القيام بإصلاحات كبيرة في الدولة، مستحدثاً عدداً من المؤسسات العامة، ساعياً للعمل على التخفيف من وطأة الإقطاع السياسي على الحياة السياسية اللبنانية، ومثله أيضاً كان حال كلّ من الرئيسين، إميل لحود وميشال سليمان، القادمين من المؤسسة العسكرية نفسها، حيث استطاع كلّ منهما الحفاظ على ما بقي من الدولة، رغم أنف كلّ الزعامات وحجم المصاعب والتدخلات.
لا بل إنّ المشكلة الأساس لدى عون، أنه حلم بالعودة إلى قصر بعبدا، حتى لو على خراب لبنان، لذلك كانت وثيقة التحالف مع "حزب الله" عام 2006، رغم أنه كان من أشدّ المندّدين بسلاحه غير الشرعي، لا بل من أكثر المطالبين بنزعه، لدرجة أنّه اتهمه باغتيال رفيق الحريري، فضلاً عن وقفته أمام الكونغرس الأميركي 2003، حينما أدلى بشهادته، بشأن التدخل السوري، وما تلا ذلك من صدور قانون محاسبة سورية، ثم قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي يدعو إلى حل سلاح المليشيات في لبنان.
بالقطع، مشاكل لبنان ليست بجديدة، بل قديمة قدم نظامه الطائفي، المتجذّر منذ تأسيسه عام 1920، لكن رغم ذلك ورغم حروب الآخرين على أرضه وحربه الأهلية، التي حصدت الأخضر واليابس، إلا أنّ لبنان بقي كدولة، ببحره وسمائه وجبله وأرزه ووديانه وأنهاره، بقي موطناً لكلّ عاشق، متنفساً لكلّ مطارد وكلّ مظلوم، تهرب إليه العقول والأموال، لا تهرب منه مثلما هي في ظلّ العهد القوي.
في عام 2005، رحل الحريري الأب ورحلت معه الوصاية السورية، لكن ما إن غادر الجيش السوري لبنان حتى جاءت حرب تموز 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل، وما تلا ذلك من اجتياح الحزب بيروت في أيار 2008 بسبب شبكة الاتصالات، ثم ليعيد الكرّة بعد عشر سنوات، وبهذا تكون قد حلّت وصاية محل وصاية أخرى تماماً.
بدلاً من إعادة لبنان إلى تاريخه المجيد، أعاده الرئيس عون لتاريخه المأزوم
منذ ذلك الحين، بات السوس ينخر في بنيان الدولة، بعد أن أخذت هذه الوصاية تتحكم في مصير لبنان وشعبه سلماً وحرباً. لكن على الرغم من كلّ ذلك، إلا أنّ هذه الوصاية ظلت تُغرِّد خارج نطاق الدولة، إلى أن جاء شركاء العهد القوي، الممثلين بعون وفريقه (المسيحي) وحزب الله إلى جانب سعد الحريري وتياره المستقبل، ممثلاً عن (السُّنة)، حينما أبرم هؤلاء وثيقة التسوية والأصح (عقد زواج المصالح).
عندها باتت هذه الوصاية محصنة على الصعيدين الداخلي والخارجي، سرعان ما توّجت بانتخابات نيابية، كانت كفيلة بشرعنة "حزب الله" وسلاحه، مقابل ما يتعرّض له من ضغوط وعقوبات دولية. ومن جهة ثانية، كان هناك قانون الانتخابات النسبي، الذي أُحدِث بدعم من هؤلاء الشركاء، واستطاع بموجبه "حزب الله" اختراق حصون بقية الطوائف اللبنانية، باستحواذه على المزيد من الحلفاء داخلها، ما أغضب الزعامات اللبنانية التقليدية، ليزداد المرجل غلياناً.
ليس ذلك فحسب، بل المشكل الأساس في طرفي العهد، هو في الطريقة التي ينظر كلّ منهما إلى اللبنانيين، فالأوّل يعتبر نفسه هو من حرّرهم من إسرائيل، بينما الثاني هو الذي خلّصهم من السوريين، لذلك جاء هذا العهد مشوّهاً منذ الولادة، دعاماته الأساسية المصالح الشخصية والولاءات الخارجية، لا بل جاء مكبّلاً بفائض القوة التي يملكها "حزب الله"، والرصيد المسيحي الذي جناه عون جرّاء شعاراته الوهمية، لذلك كان على اللبنانيين دفع الفاتورة مضاعفة.
ختاماً، يمكن القول: من ثمارهم نعرفهم، جاء عون للرئاسة بذريعة الإصلاح والتغيير، لكنه خربها، جاء لمحاربة الفساد، فأفسدها أكثر، جاء بشعار القضاء على الطائفية السياسية والإقطاع والتوريث، فكان على رأس العشيرة الإقطاعية، وكان أول من ابتدع فكرة التوريث لرئاسة الجمهورية، وبدلاً من القضاء على الطائفية، بات وولي عهده، شيوخ الطائفة، وبدلاً من إعادة لبنان إلى تاريخه المجيد، أعاده إلى تاريخه المأزوم.