من ينتشلك من تحت الأرض لن يخذلك فوقها

21 فبراير 2023
+ الخط -

في إحدى حلقات برنامج "شاهد على العصر" يستضيف الصحافي أحمد منصور العقيد السابق عبد الكريم النحلاوي، قائد الانقلاب العسكري على الوحدة بين سورية ومصر. يقول منصور لضيفه: "حينما قال لكم جمال عبد الناصر (اللي هيتكلم هدوسه بالجزمة)، كيف كان وقع ذلك عليكم وأنتم من كان لكم قبل الوحدة رئيس مدنيّ يسكن في شقة مُستأجرة، ويحرسها حارس واحد نهاراً فقط. وكان رئيسكم يتمشّى بين الناس واحداً منهم بلا حراسة ولا مراسم".

نعم، هكذا كانت سورية قبل العسكر وبرغم كثرة الانقلابات العسكرية قبل الوحدة إلا أنّ الحياة السياسية المدنية كانت في كلّ مرّة تلفظ الجيش خارجاً حتى جاءت الوحدة بقيادة العسكر، ومنذ ذلك الوقت أصبحت جملة عبد الناصر (اللي هيتكلم هدوسه بالجزمة) شعاراً للحكم في سورية كما كل الدول التي يحكمها الجيش.

ليس سهلاً بالنسبة لأبناء جيلي الذي وُلد وعاش طفولته في عهد الأسد الأب ثم كبر وتكوّنت مداركه المعرفية بالوطن ونمت مشاعره الوطنية في عهد الأسد الابن أن يدرك حقاً بأنّ الرئيس السوري المدني، شكري القوتلي، كان يعيش في شقة مستأجرة. وكان يتجوّل في شوارع العاصمة التي يحكمها بلا حراسة.

حينما يسمع المرء أنّ ذلك كان يحدث في سورية منذ عهد قريب، يظن بأنها أسطورة شعبية أو قصة من نسج الخيال. فلم يكن من السهل عليّ أن أصدق ذلك لولا استناد منصور على عدّة مصادر مكتوبة عن تلك الحقبة ومطابقتها في وصف عهد القوتلي، علاوة على القصص التي رواها كبار السن السوريين ممن عاصر تلك الفترة. وحينما يتحدث من عاصر تلك المرحلة، كان يصف سياسييها بالقول بكلّ ثقة بأنهم كانوا رجال دولة.

يغمر من عاصر تلك المرحلة مشاعر الفخر برجالاتها والحنين إليها في كلّ مرة ينطق أحدهم مصطلح "رجال دولة". ورغم معرفتنا بأنّ مصطلح "رجال أو رجالات الدولة" كان يُراد به التأكيد على أنهم كانوا على قدر المسؤولية الوطنية تجاه الشعب الذي انتخبهم وبذلوا كلّ جهدهم من أجل مصلحة هذا الشعب والحفاظ على كرامته، إلا أنني وأبناء جيلي محرومون من الحالة الحسيّة والشعورية التي ترافق مصطلح "رجالات دولة" لأننا وُلدنا في زمان لم تكن فيه لسورية دولة بمعناها الحقيقي. مفردة "دولة" بالنسبة لنا كانت تعني الخوف على المستوى الشعوري، الخوف الذي يرافق مصطلحات عهد الأسدين عن الدولة، أي مصطلحات "أمن الدولة، زلم الدولة، ولاد الدولة" وغيرها من الأمثلة التي ترافق مفردة "دولة" بمعناها الأسدي.

المرة الأولى التي خبَرُت فيها معنى "الدولة" هي في بلاد الطواحين، البلاد التي لجأت إليها طواعية. وقد كانت المرّة الأولى التي أشعر بها بأنني مواطن، هي حينما اعتذر مني موظف بلدية عن خطأ في تقدير موقف. وشعرت مرّة أخرى بأنني مواطن لدولة تبادلني الحقوق والواجبات حينما وقفت أمام مركز الاقتراع حاملاً جواز سفري الجديد الذي منحتني إياه هذه الدولة بحكم القانون لأدلي بصوتي. وعلى الرغم من أنني أعرف بأنّ لصوتي، كمواطن، أثراً هذه المرة في اختيار سياسيي هذا البلد للسنوات الأربع القادمة، إلا أنني لم أنتخب حينها. ولم أشعر تجاه أحد من سياسييها بإحساس المواطن تجاه رجال الدولة.

وقد تساءلت كثيراً: لماذا لم أعرف هذا الإحساس بعد، رغم وجود كلّ مقوماته. هولندا دولة كاملة الأركان، يبذل سياسيوها ما بوسعهم من أجل رفاهية شعبها، ويحبها ليس من يحمل جنسيتها فحسب، إنما كل من يزورها ويتمشّى في شوارعها. وإن كان الأمر مرتبطاً بالأزمات التي تواجهها الدول، فيتصدى لها من هم على قدر المسؤولية، فيكون هؤلاء هم رجال الدولة، فقد تعامل السياسيون هنا مع أزمات كبرى في السنوات القليلة الماضية كأزمة كورونا وأزمة الطوفان الذي حلّ بالمدن الجنوبية من هولندا. ولقد كانوا، برأيي، على قدر المسؤولية. فلماذا لم أشعر تجاه أحد من هؤلاء السياسيين بأنه رجل دولة!

في وطني الأم سورية، هذا الوطن يتيم الدولة ورجالاتها، تحلّ كارثة كبرى، فيهب رجال الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) لمواجهة آثار الزلزال المدمر.

في وطني الأم سورية، هذا الوطن يتيم الدولة ورجالاتها، تحلّ كارثة كبرى، فيهب رجال الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) لمواجهة آثار الزلزال المدمر. يزيلون الأنقاض ويحفرون الأرض من تحتها بما توفر لهم من معدات لإنقاذ أي روح بشرية ما زالت تتنفس. تنقصهم المعدات فيحفرون بأظافرهم، بأسنانهم وبأرواحهم لإنقاذ من يستطيعون الوصول إليه. يصلون الليل بالنهار، يعملون بلا راحة، يسابقون الزمن بحثاً عن ناجين.

أيام قليلة بعد الكارثة يخرج رئيس منظمة الدفاع المدني بمؤتمر صحافي للحديث عن الكارثة، وهو يقف في مبنى متواضع وعلى يمينه رجل من المنظمة، وعلى يساره سيدة من سيدات الدفاع المدني، ثلاثتهم بثيابهم الميدانية وبادي عليهم التعب والإرهاق. يتوجه بداية الشعب، فيعزي أهالي الضحايا ويعتذر باسم المنظمة لذوي كلّ من لم يستطيع متطوعو الدفاع المدني إنقاذ حياته، وينتقد التقصير الدولي عن مساندتهم في مواجهة الكارثة. أيام قليلة بعدها تعلن منظمة الدفاع المدني الحداد في كافة أنحاء سورية وإعلان السادس من فبراير/ شباط يوم حداد وطني لتخليد ذكرى ضحايا الزلزال.

هذه البطولات في مواجهة آثار الزلزال، وما رافقها من تصريحات ومواقف للمنظمة لا يقوم بها إلا من هم على قدر المسؤولية. إنني الآن وللمرة الأولى في حياتي أشعر بإحساس المواطن تجاه أحد أستطيع أن أطلق عليه تسمية "رجالات الدولة" بمعناها الحقيقي والشعوري. لقد بذلوا ما بوسعهم، أنقذوا أرواحاً، ضمدوا جراحاً، واسوا المصابين، ذرفوا الدموع، وانتقدوا التخاذل الدولي بكل جرأة ومسؤولية.

أستطيع القول إن هذه المنظمة تعبّر عنّي كسوري وإنها ليست مؤسسة دولة فحسب، إنما نواة لدولة قابلة التحقيق إن توافر لأعضائها الدعم الكافي. فحينما يخرج رئيس المنظمة ومعه رجل وسيدة من المتطوعين فكأن المنظمة تقول لنا نحن المجتمع بنصفيه المكمّل أحدهما للآخر.

وحينما تبث صفحة المنظمة تصويراً مباشراً لسيدة تتكلم باللغة الكردية، اللغة التي حاربها الاستبداد طويلاً، فإنها تخاطب السوريين جميعاً ولا تخاطب السوريين الأكراد فقط. وحينما تعلن المنظمة الحداد في كافة أنحاء سورية فكأنما المنظمة تقول نحن لكل سورية، نتألم لمصاب الجميع وليتنا نستطيع أن نضمد الجراح في اللاذقية وحلب وجبلة أيضاً.

ليتنا نستطيع أن نبكي معهم. أما إعلان الحداد فعادة ما تقوم به السلطات السياسية في البلاد لكن مع غياب ممثل سياسي للشعب السوري كان على المنظمة أن تأخذ زمام المبادرة، تتحلى بالمسؤولية وتعلن عن هذه الخطوة. وعندما انتقد رئيس المنظمة لاحقاً الأمم المتحدة وآليات عملها، لم يكن كلامه مجرد كلام عام وشعبوي تُراد به دغدغة مشاعر الجمهور كما يفعل السياسيون العرب عادة، إنما كان الرجل عارفاً وخبيراً بمشكلات الأمم المتحدة فقال ما يجب أن يُقال، لا ما يُرغب بأن يُقال. إن بطولات الخوذ البيض وما يوازيها من أقوال ومواقف وطنية، لا يقوم بها عادة سوى من يُطلق عليهم بحق مصطلح "رجالات دولة".

أخيراً أود العودة إلى مسألة استوقفتني طويلاً هي: "لماذا لم أشعر تجاه أحد من سياسيي هولندا على أنه رجل دولة وأنا الذي أحب هذا البلد كما أحب وطنه الأم تماماً. علاوة على أنه يوجد من بين هؤلاء السياسيين من يؤمن ويعمل لأجل قضايا أؤمن بها! باعتقادي لأن سورية وطن لم يحظَ في تاريخه الحديث بدولة كاملة المعاني بعد. لقد كانت هناك فرصة ضئيلة سانحة للحكم المدني قبل الوحدة لخلق هذه الدولة مع وجود صعوبات جمّة. وتلك مرحلة تحتاج لمن هم "رجالات دولة" أما حينما تنشأ الدولة وتستقر ينتقل هؤلاء من طور "رجالات الدولة" إلى طور "موظفي الدولة" وهذا ما تحقق لهولندا ودول كثيرة تشابهها بظروف النشأة.

أما سورية فاليوم هي بأمس الحاجة إلى "رجالات دولة" يعبرون بها من مرحلة إلى أخرى وصولاً إلى بوادر الاستقرار على ما يمكن تسميته دولة. فهل تلعب منظمة الدفاع المدني دور سياسي مستقبلًا، وهل تنجح بالسياسة بما نجحت به في الإغاثة؟ لا أحد يستطيع التنبؤ بذلك، لكنني على يقين بأنهم فيما لو لعبوا هذا الدور سيبذلون قصارى جهدهم، فمن ينتشلك من تحت الأرض لن يخذلك فوقها.