من كييف إلى كوفِل: الحرب التي تحملنا في قطارها

27 مارس 2022
+ الخط -

مساء الخامس من مارس/آذار هربنا، كما فعل غيرنا، من العاصمة كييف إلى شمال غرب أوكرانيا، كوفِل تحديدًا. وقد يتساءل القارئ: لِمَ الغرب، أو الشمال الغربي تحديدًا، حيث مثلث الحدود الأوكرانية البيلاروسية البولندية؟ تلك قصة بحد ذاتها، أود أن أرويها لكم كشاهد عيان عايش مع أسرته أحداث الهرب من القصف الذي طاول ضواحي العاصمة الأوكرانية كييف.

كنت ما زلت صامدًا في الأيام الأولى، فما سمعته وعايشته من قصف لم يكن يعادل دقيقة رعبٍ واحدة مثل التي عشتها في غزة أو لبنان أثناء عدوان عام 1982. لذلك كنا نتعامل مع الأمر ببساطة، وشجعنا بعضنا بعضاً، فلسطينيين ولبنانيين، على البقاء، مرددين عبارات مثل: ما الفرق بالنسبة لنا فالأوكرانيون والروس أصدقاؤنا، ولن ينالنا منهما أي مكروه.

ربما هو تفكير ساذج في لحظة عاطفية، كوننا لم نصدق ما يحصل. ربما تكون مزحة؛ هل روسيا ستحتل أوكرانيا؟ هل جُن فلاديمير بوتين وجنرالاته؟ ألم يتعلم من درس الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وبعده الولايات المتحدة في أفغانستان أيضًا، وقبلها في العراق، وقبلهما في فيتنام؟ وإلى جانب منطق الفعل السياسي والاستراتيجي، لاحقتنا تلك الذكريات من مرحلة دراستنا الجامعية في ثمانينيات القرن الماضي التي جمعتنا مع الشعبين، وما زالت حيةً في ذاكرتنا.

تجاوزت الحرب في أسبوعها الثالث التوقعات، نتيجة المقاومة الضارية للقوات الأوكرانية، حيث حددت وسائل إعلام غربية أن الحرب ستدوم أربعة أيام وفق تقارير استخباراتية أميركية، وتوقعت سقوطًا سهلًا للعاصمة الأوكرانية كييف.

في الحقيقة، لم تكن تلك تقديرات غربية فقط، بل توافقت مع تقديرات روسية أيضًا، فقد نشرت وسائل الإعلام الروسية مع اللحظات الأولى لبدء المعارك خبرًا مفاده أنه سيتم إغلاق المجال الجوي الروسي في مناطق غرب روسيا، ويشمل ذلك مناطق كرسنودار وروستوف وسوتشي شمال القوقاز ابتداءً من يوم 24 فبراير/شباط 2022، إلا أن المقاومة الأوكرانية ورفض السكان الناطقين بالروسية في شرق وجنوب أوكرانيا للاحتلال الروسي لبلادهم، غيّرا كل التوقعات، وما زالت تدور رحى الحرب.

تعاملت معنا المضيفة في العربة بودٍ عالٍ، كنت قد خشيت العكس نظرًا للتقارير والحكايات التي نقلها البعض عن تصرفات عنصرية تجاه الأجانب

مرّت مجموعة من الليالي التي كان يسمع فيها دوي انفجارات بعيدة في الشمال والغرب، وفي ليالٍ أخرى، كانت تمتزج تلك الانفجارات بأصوات الرشاشات التي بدت وكأنها معارك تدور في شوارع مدينة كييف. كانت تلك الطلقات المتفرقة التي تستمر أحيانًا لساعات هي الأكثر رعبًا وتأثيرًا علينا، وبالتأكيد على كل من ظل صامدًا حتى ذلك الوقت. تصريحات عمدة كييف لم تكن مطمئنة، فقد وصف تلك الاشتباكات على أنها مع عناصر وحدات روسية، ولاحقًا أضفى عليها غموضًا، بوصفها اشتباكات مع مجموعات من المخربين الخارجين عن القانون، ووجود كلا الطرفين مخيف، فالنهابون واللصوص ينشطون خلال الحروب، وبالفعل شاهدنا عدة محلات من بينها صيدليات في المنطقة قد دُمرت واجهاتها الزجاجية، وتظهر محاولات خلع الأبواب على أخرى. وإثر ذلك، فرضت سلطات كييف حظرًا للتجول يستمر من الخامسة مساءً وحتى الثامنة صباحًا، تحت طائلة القتل لمن يخالف التعليمات.

لم تعد كييف آمنة، ويومًا تلو آخر، باتت المحلات التجارية تفرغُ رفوفها من البضائع ذات القدرة على الحفظ والتخزين، وعادت الطوابير السوفييتية القديمة على أبواب المحلات، وأغلقت المصارف الآلية، وتوقفت محلات تبديل العملات عن العمل، وإذا كان بعضنا قد احتفظ ببعض المال بالعملة الأوكرانية أو الدولار الأميركي، فإن الأمور كانت تذهبُ نحو المزيد من تدهور الأوضاع الغذائية، فالمخزون المنزلي كاد يشارف على النفاد. أصبحت المدينة التي كانت تضج حياةً مخيفة ليلًا. وفي النهار لم نعد نرى أثناء ساعات رفع الحظر سوى كبار السن، لم نعد نرى أطفالًا أو فتيانًا أو شبابًا في الشوارع القريبة، ولم يعد هناك أوكرانيون يفسحون كلابهم كما كل صباح. اتصلت كعادتي بأصدقائي العرب، أخبروني جميعًا أنهم قد غادروا، بعضهم وصل إلى بولندا، وآخرون إلى ألمانيا، وبعضهم إلى مدينة لفيف في الغرب الأوكراني. إذًا جاءت تلك اللحظة التي أجلتها ما استطعت على أمل وقف إطلاق النار، وعودة السلام إلى هذا البلد الطيب. بات الأمر واضحًا؛ علينا الرحيل عن كييف إلى مكانٍ أكثر أمانًا.

ابني وزوجته نصحانا بالذهاب إلى الغرب حيث عائلة زوجته، قالت لودميلا: "لقد اتصلت بأسرتي ووالدي يدعوكم للذهاب إلى كوفِل، حيث الغرب الأوكراني ما زال هادئًا.. ما زالت الحرب بعيدة عنه، وإذا حدثت تطورات في تلك المناطق فسنكون قريبين من الحدود ونستطيع المغادرة إلى بولندا متى شئنا". حسنًا إذًا، تحركنا مساء السادس من مارس/آذار الجاري، وأخذنا ما هو ضروري من وثائق وملابس، وتركنا أشياء عزيزة علينا. أغلقنا محابس الغاز والكهرباء والماء وأغلقنا الأبواب. ودّعنا المنزل وتساءلنا قبل أن نمضي: هل سنراه ثانيةً؟

في الطريق شاهدنا ما لم تسبق لنا رؤيته، على شاكلة انتشار عناصر قوات الحماية المدنية بلباسهم العسكري والشارات الزرقاء على أيديهم. أوقفنا عناصر أول الحواجز وطلبوا بطاقات التعريف الخاصة بنا. أخرجناها فنظر الضابط إليها وإلينا، وأعادها إلينا، صاحت لودميلا بعزة قومية: "المجد لأوكرانيا"، فردد خلفها جنود الحاجز: "المجد لأوكرانيا.. المجد للأبطال المدافعين عنها".

اتجهنا إلى محطة القطارات، حيث الثلج ينهمر كقطن يتطاير في الهواء والطقس بارد. كانت أمام المحطة عشرات العائلات التي تنتظر موعد رحلاتها إلى الغرب. دخلنا المحطة التي كانت معتمة، لولا أضواء بعض الهواتف حيث يبحث البعض عن طريق إلى حيث يريد وسط زحام الناس المتراصين. بصعوبة مررنا إلى البوابة حيث ينتظرنا القطار.

أخبرتنا إحدى المشرفات بأن قطار كوفِل سوف يتأخر. ذهبنا إلى صالات الانتظار حيث تكوم الناس وافترشوا الأرض. سألت شابة صديقتها: لماذا كل شيء معتم هنا. أجابتها: كي لا يقصفنا الروس من الجو إذا رأوا ضوءاً. سألتها: كيف تعرفين ذلك؟ قرأتها في روايات أجدادنا عن الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية)، هذا ما كان يفعله العدو الألماني بنا. أجابتها بثقة.

جاء موعد انطلاق قطارنا. وصلنا إلى عربتنا بصعوبة، وقدمنا تذاكرنا وجوازات السفر. تعاملت معنا المضيفة في العربة بودٍ عالٍ، كنت قد خشيت العكس نظرًا للتقارير والحكايات التي نقلها البعض عن تصرفات عنصرية تجاه الأجانب. كان القطار كما المحطة مُعتمًا بلا إضاءة، لذلك اعتمدنا على كشافات الهواتف للوصول إلى حجرتنا.

حاول ابني إضاءة الحجرة لكن المضيفة منعته صارخةً: "لا تفعل، سيدمر الروس القطار إن رأوا ضوءًا". أزعج آذاننا صوتها وعباراتها. مضت دقيقتان ودوى انفجارٌ هائلٌ بجانبنا. كان الروس قد قصفوا مبنى بجانب المحطة، ارتجف كل شيء، وارتعب من كان في المكان، والبعض صرخ، لم ندرِ طبيعته، تأخر القطار ساعتين أخريين، وفي الثانية عشرة ليلًا انطلق. لم ننم طيلة الطريق، وتكرر توقف القطار في محطات عدة، وفي بعضها كان يطول الانتظار لساعتين أو أكثر، وعندما نستفسر، تأتينا الإجابة: ذلك لسلامتكم، العدو يقصف أهدافًا قريبة. انطلقَ القطار فيما بعد، واستغرقت الرحلة خمسة عشر ساعة؛ أي ضعف الوقت الذي قد تستغرقه في الأيام العادية، ووصلنا إلى كوفِل، التي ما زلنا نعيشُ فيها ونختبر تجارب أخرى عما تعنيه الحرب.

77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
علاء أبو عامر

أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، دكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

علاء أبو عامر