من الدولة إلى الدولة داخل الدولة إلى اللا دولة
هناك ثلاث حالات للمجتمعات في عقدها الاجتماعي ضمن هيكلية الدولة، وهي التالية:
الأولى، حالة الدولة، وهذه لا تكون إلا بالقوانين التي تُشرّع وتُنظّم عقدها الاجتماعي. وهي القوانين التي تضمن لها سيطرتها الضرورية على نظام الحياة داخلها؛ إذ لا غنى عن وجود القانون لبقاءِ الدولة. هذا ما يؤكّده علماء الاجتماع من مونتسيكو إلى دوركهايم فهابرماس. ولكنْ ثمّة شرط أساس يجب تحقّقه في القوانين المشرعة: وهو أن تكون هذه القوانين منسجمة مع الواقع الاجتماعي، ومع حياة الفرد داخل المجتمع.
والثانية، هي حالة الدولة داخل الدولة، وهذه تكون عندما تُصبح القوانين غير منسجمة مع الواقع الاجتماعي، ومع حياة الأفراد داخل هذا المجتمع. فتصبح هناك منظومات اجتماعية داخل هذه الدولة (ربما تكون مؤسسة، أو فئة، أو طبقة... إلخ)، وهذه المنظومات تكون نافذة متنفّذة؛ متنفّذةً بقوّتها وقدرتها على تجاوز القانون، ونافذةً لأفراد هذا المجتمع العاجزين عن تحقيق الانسجام أمام متطلّبات القوانين غير المنسجمة وواقع الفرد وطاقته. حينها، تخلق هذه الحالة ظاهرتين رئيستين في هيكلية الدولة. الأولى سسيولوجية والثانية سايكولوجية. أمّا الأولى فهي خلق نوع من الوجاهات الفئوية أو الطبقية أو حتى الفردية، القادرةِ على لي عنق القوانين أوّلاً، ثم الدولة في مرحلة لاحقة. وأمّا الثانية فهي تُوّلد الهاجس المكروه في ذهنية الفرد الاجتماعي؛ أي إنّ هذا الفرد سيتصوّر الحياة داخل هذه الدولة تقوم على شيء آخر غير القانون، والكارثة أنّ التصوّر سيكون في الاحتمال الأكره لديه؛ فإذا كان فقيراً سيرى أنّ القانون لا قيمة له أمام المال، وأنّ الدولة باتت ملك الأغنياء، وإذا كان من إثنية محدودة العدد سيرى أنّ القوانين لا تُطبَّق إلّا على إثنيته، وإن كان هاجسه طائفياً فسيرى أنّ هناك طائفة ما قادرة على تجاوز كلّ القوانين. وهذا معنى تَوّلد الهاجس المكروه؛ وهي حالة نفسية تصنع حالة رهبة وكُرهاً داخل بنية الدولة.
مهما تكالبت عليها أحمالُها الخارجيّةُ، تستطيع الدولة أن ترميها عن ظهرها لا محالة، وسيظلّ جوفها وأحشاؤها سليمين رغم ثقل حِمْل الظهر
والحالة الثالثة، هي حالة الدولة داخل اللا دولة، وهذه تكون نتيجة طبيعية لاحقة للمرحلة السابقة، حين تضعف الدولة وتزداد قوّة تلك المنظومات الاجتماعية المتنفّذة، مع فارق وحيد وهو أنّها تصبح مستغنية عن وظيفتها الأولى التي كانت في حركة جدلية مع الثانية، أي تستغني عن وظيفة "النافذة"؛ فتصير متنفّذة فقط. الدول التي تحمل داخلها دولة؛ فهي دولة داخل الدّولة.
بين الحِمْل والحَمْل
الحِمْل هو ما كان خارجيّاً على الظهر، والحَمْل ما كان داخليّاً في البطن والجوف. والمرأة تستطيع أن تحمل على ظهرها عشرة أضعاف ما يمكن أن تحمله في بطنها. وهو أسهل عليها؛ فما على الظهر يمكن أن ترميه متى شاءت، ورميه عن ظهرها أيسر ألف مرّة من رمي ما في بطنها. وما علا ظهرها يأكل من ظهرها فقط، أمّا ما في بطنها فهو يمتصّ أحشاءها، وسيظلّ جزءاً منها حتّى بعد أن ترميه. إلا أنّه سيكون مصدر سعادتها، رغم أنّه ينهك شبابها وصحّتها، جنيناً ووليداً. ما يعني أنّ سعادتها تكمن فيمَن ينهكها.
لكنّ هذا الحَمْل يمكن (وليس دائماً) أن يسعى، فيما بعد، إلى تعويضها عن بعضِ ما أنهكها؛ ولن يستطيع. وهذا السعيُ الأخيرُ هو الاختلافُ الوحيد بين حَمْل المرأة وحَمْل الدّولة. فالدّولة مهما تكالبت عليها أحمالُها الخارجيّةُ، فستستطيع أن ترميَها عن ظهرها لا محالة، وسيظلّ جوفها وأحشاؤها سليمين رغم ثقل حِمْل الظهر.
لكنّ داءَها القاتلَ في حَمْلها الذي يسكن أحشاءها؛ ذاك الذي تكوّنَ من جسدها، وشرب من دمها، ونهب هواءها، وقُوْتَ أعضائها. هذا الحَمل مهما كان صغيراً، فإنّ بقاءه أطولُ، ونهبه أكبر، ورميه أعسر؛ فهو جزء لا يمكن إزالته من دون آلام الطَّلْق التي هي موت آخر.
على أنّ جنينَ الأُمِّ يسعى لأن يعوّضَ أُمّه ولن يفلح، وأمّا جنين الدولة فسيظلّ يأكل أمّته جنيناً ووليداً. وهذا مصير الدول التي تحمل داخلها دولة؛ فهي دولة داخل الدّولة، حتى تجعلها لا دولة.