من الإرهابي حقاً؟
لم تبدأ الردّة بإعلانِ تأسيسِ اتحاد القبائل العربيّة (على هذه الصورة، وبهذا التوقيت والتكوين)، ولا هوّ أوّل ملامحها، فالسلطةُ قامتْ أصلاً على كلِّ نقيضٍ للدولة (تلك الفكرة التي أوجدها الإنسان أساسًا لتسيّر حياة الناس وتحفظ حقوقهم وتضبط العلاقات بينهم)، ابتداءًا من زرعِ الشقاق داخل المجتمع وتأصيلِ التمايزات والفوارق "القبليّة" بوجهٍ ما، وتعميق "الكراهية" تجاه الآخر (كلّ آخر)، بعد أن رسّخت ثارات في كلّ بيتٍ تقريبًا، قاتلين ومقتولين، سجّانين ومسجونين، مع وضدّ، لا يهمّ مع من وضدّ من، المهم دائمًا تخليق مجموعة تكرهُ الآخرين (المجموعات ذات النفسيّات والذهنيّات المشابهة، ولو في المعسكر النقيض).
ثمّ تلتْ ذلك، أو سايرته، عمليّة تفكيك ممنهجة لكلِّ راسخٍ في "الدولة المصريّة" ومؤسّساتها (تلك التي قامت على يدها غالب المظالم القديمة، لكنّها لم تكن على ذات القدر من الضمان التام للآلية، لا مجرّد الولاء)، بدءًا بالمؤسسة العسكريّة، ومرورًا بالأجهزةِ الأمنيّة والمعلوماتيّة ومؤسّسات التقاضي والرقابة وغيرها، بما في ذلك المؤسسات المختصّة بملفّات مثل الاقتصاد مثلاً، تخلّصًا من كلّ الولاءات القديمة/ المتعدّدة وحملتها، وزرعًا لآلاتِ تنفيذٍ بمحرّك واحد مركزي في قصرِ الحكم.
وتوازيًا كان الانقلاب على كلِّ ملمحٍ من ملامحِ الدستور والقانون (حتى تلك المواد القاصرة أو القوانين الفاضحة) منهجًا يترسّخ في كلِّ مشهدٍ من مشاهدِ وجودِ السلطة: تفصيلاً للدستور على مقاسِ الأبديّة، وضربًا للقضاء لبيعِ جزءٍ من الوطن، وتحايلاً على الاعتقالِ بصدوره من جهاتِ "قانون/ قضاء"، وتكليفًا بالأمر المباشر في المشروعات "الضخمة"، كلفةً وفشلاً، وقضاءًا على المجتمع الأهلي والأحزاب، ولو بتخليقِ مسوخٍ جديدة تحمل ذات الأسماء لكن بمنطق المعسكر/الكتيبة، بكلِّ ما تحمل من دلالاتِ التسيير وانعدام الإرادة كما العسكرة.
هذا المزيج المريع من الشموليّة، العسكرة والشعبويّة مع الخطابِ الديني (الخطاب بتعريفيه كنتاج ذهني أو نشاطٍ إنساني تفاعلي)، إضافة لشيءٍ يُشبه "ادّعاء النبوّة"، أو ربّما "ادّعاء الألوهة"، يتكرّر في خطاباتها لإقناعِ الناس بما لا يمكن الاقتناع به، أو إجبارهم على الخرَس أمام كوارث تلحق بهم، وبالوطن، بلا انتهاء: أمر الله؛ هتكفروا؟
هذه كلّها، وغيرها الكثير، دلالاتٌ على ما تمثّله السلطة الحاليّة في مقابل مفهوم "الدولة" (رغم ما لديّ من ملاحظاتٍ بنيويّة على "الدولة" كفكرة، وتطبيقاتها)، تمثّل شيئًا من ملامح الردّة الشاملة لما قبل الدولة والحكم فيها بمنطقِ القبيلة منذ اللحظة الأولى تضييقًا للدائرة: (المؤسسة، الجهاز، فريق المكتب، الفرد).
تأجيل الأسئلة الأخلاقيّة أو دهسها لصالح اللحظة والأمان والوجود مُفزعٌ للغاية، وعواقبه أخطر من أن يتمّ تجاهلها أو السكوت عليها
أنحازُ للانطباعاتِ على حساب التحليل في كثيرٍ من المواضع، لكن محاولة الفهم هنا مُلحّة، درءًا للمفاجأة التي أذهلتْ الكثيرين، وكأنّ هذه الخطوة (تأسيس اتحاد القبائل العربيّة) ليست امتدادًا لمسارٍ، هذه تجلّياته البديهية، أو كأنّ اعتمادها على بلطجيّةٍ وخارجين على القانون (في نظرِ السلطة، بعيدًا عن تقديري لممارساتهم السابقة في مواجهةِ السلطة قبل أن يُستخدموا منها)، فكأنّ اعتمادها على هؤلاء باعتبارهم واجهاتٍ أمنية وسياحيّة واستثماريّة نغمةً ناشزة.
إنشاءُ وتضخيم (وتسليح؟) مليشيا قبليّة، واعتبارها على لسان واجهتها العلنيّة أحد فصائل القوّات المسلّحة، كما جاء على لسان متحدّثها الرسميّ مصطفى بكري، ورئيسها العرجاني، وقيامها بهذا الأداء العلني المتصدّر ليس في السياسة فحسب، إنّما في قضايا العلاقات الدوليّة والسلم والأمن، تعيد للأذهان نموذجين قريبين (زمنًا على الأقل) هما "فاغنر" الروسيّة و"الدعم السريع" السوداني، ليس فقط لخطورتهما على المجتمع والمواطنين والوطن كذلك، إنّما حتى على السلطة، بعيدًا عمّا تستحقّه في نظري، لكنّها لن تتجرّعه وحدها، إنّما سيكتوي به الوطن، وبكلّ من فيه، قبلها.
تأجيل الأسئلة الأخلاقيّة أو دهسها لصالح اللحظة والأمان والوجود مُفزعٌ للغاية، وعواقبه أخطر من أن يجرى تجاهلها أو السكوت عليها، أو حتى "الانتظار حتى الفهم" والرسوب الدائم/المخزي في اختباراتِ ردّ الفعل التي تمارسها السلطة في كلِّ وقتٍ، وختامه كارثيٌّ لا على أصحابه وعلينا فقط، إنّما على هذا البلد المسكين، حاضرًا ومستقبلاً.
وأخيرًا يبقى التساؤل في مواجهةِ السلطة وكذّابي زفّتها حول من الإرهابي هنا: المتضامنون مع فلسطين الذين اختطفتهم للحبوس والمعتقلات، أم مليشيا مسلّحة على الحدود مع العدو، ولو أسّستها هي ورعتها أو حرّكتها للحظة؟