مظاهر "انكسار" الدعاء أمام حقائق الكون
غالبًا ما يدخلُ الإنسان حروبًا في الحياة، معوّلًا على تحقيق النصر المؤزر على متاعبها وتحدّياتها، منتظرًا معجزة من الله تُحدث له تغييرات تتجاوز السنن والقوانين التي تسير عليها الحياة وتخترقها، كما يودّ الإنسان من خلال ذلك أن يحظى بتميّزٍ خاصٍ عن غيره في معاركه الخاصة، ظنًّا منه أنّ الله بجانبه وحده ويقاتل معه في سعيه للتخلّص من هذا الركام؛ هكذا يتصوّر الكثير من الناس طبيعة الله في حيواتهم.
وبينما تَسري جميع السنن الكونية التي أوجدها الله في الكون، وأرساها على الخلائق أجمعين دون تمييز أو محاباة لدينٍ أو عرقٍ أو لغةٍ أو بلدٍ أو جنسٍ، لتعمل على الأرض للناس أجمعين دون أن تلتفت نحو ديانة مهما كانت، ولا إلى قومٍ مهما اختصّوا به من مُميزات؛ وتشهد بعض اللحظات التاريخية التي مرّ بها المسلمون سابقًا مدى سريان هذه القوانين عليهم في أحلك ظروفهم، فلم يستطع المسلمون مثلًا، أن يقفوا ضدَّ هجماتِ المغول سابقًا، ولا ضدَّ سحقهم لكلّ منجزاتهم الحضارية في الشرق، وهو ما وقع في الغرب إثر سقوط الأندلس وهزيمة المسلمين. وعلى الرغم من كثرةِ الدعوات التي سجلتها كتب التاريخ، إلّا أنّها تنفع أمام قوانين وضعها الله وتركها تعمل وتنتج دون تدخل مباشر منه، وإن كان كلّ ذلك تحت علمه.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت البشرية جمعاء انتشارًا مُدوّيًا لفيروس كورونا الذي اجتاح العالم كلّه، ولم يترك بيتًا لم يلجه، ولا منطقة دون أن تتعرّض له، ولا دينًا، وقد كان حظُّ المسلمين منها كثيرًا، فلم يفرّق بين طفل بريء أو رجل صالح، ذكر وأنثى، غني ذي إنفاق أو فقير ذي معسرة، ودون تحيّز ولا عنصرية تجاه طرف دون آخر؛ فكانت سنن الله وقوانينه أكبر، وأثمرت موتًا لقسمٍ من الناس الذين تعرّضوا للفيروس.
ذلك أنّ الكون لا يعمل على هوى ما يؤمن به الإنسان ويقتنع به؛ فعند المسلمين في أحيانٍ كثيرة تُرفع الدعوات دون الاستجابة لمطالبها، مثل الدعاء بالنصر القريب أو إيجاد عمل، بل تصل في بعض اللحظات إلى حدّ السب والشتم والدعاء بالويل والثبور على الغير! وبهذه المعادلة البسيطة، يظن بعض الناس أنّ الأمر يتعلّق بطلبٍ آني واستجابة فورية على غرار العلاقات الإنسانية القائمة على المصالح الذاتية، وعلى الرغم من بعضِ التحذيرات والتنبيهات يُمعن هذا البعض في المواصلة؛ إذن فلنتخيل أنّ الله سيستجيب لهذه الدعاوي كلّها، فكيف سيكون الحال حينئذ؟
وهذا الأمر يدعو إلى مساءلة موضوع الدعاء وواقعه، وكشف حقيقته الذي انكسر جرّاء تشوّهات شملت مفهومه، حتى أضحى يغلب اليوم على الركون لجانب طلب الحاجة والنصرة دون طلب السعي الكامل لكشف الغمّة واتخاذ الإجراءات كافة، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة تصحيح المفاهيم والتصوّرات الخاطئة حول مسألةِ الدعاء، لأنها من القضايا التي تهمّ الإنسان المسلم أساسًا، وترتبط بدينه. ونتيجة لذلك، فإنّ النظر إلى ما يحيط به الإنسان عقله من مفاهيم تُسيّر شؤونَ حياته، هو أمر كفيل بتغيير النتائج وتحقيق واجب الدعاء، وبالتالي تبديل الواقع.
استيعاب مفهوم الدعاء وتتبع جزئياته وفكّ ما يحيط به هو جزء من عملية الخطو نحو الطريق الصحيح، عن طريق إعمال العقل والنظر، والتأمل والتفكّر
إنّ عملية تصحيح مفهوم الدعاء ووضعه على سكته الصحيحة لا تتأتّى إلا بإعمال العقل الإنساني ومنطقه الصارم؛ فالطريقة والتصوّر والمخيال الذي أحاط بفهم الإنسان للدعاء شيء لا يمكن فهمه إلا بأنّه عقل معطّل، لأنه لا يُحقق به انعكاسًا على الواقع، بل هو فهم مُلغم بالأوهام والخرافات.
وتاريخيًا، وضمن هذا السياق، فإنّ أخطر شيء يحدث للإنسان أن يُحيط نفسه ببيئةٍ مشبعة بالمفاهيم الخاطئة، ولا تساعده على تصويب الدعاء، الأمر الذي يجعله يهيم معهم ضمن تراكمات اختلطت باللحظات التاريخية المنكسرة. وهو ما يدعو إلى استيعاب مشكلة الدعاء، وتصويب البوصلة المفاهيمية المرتبطة به؛ فليس الإشكال في توارد التعاليم القرآنية والحديثية فيها، فهي عبادة يعلن الإنسان من خلالها توحيده، وعلاجٌ نفسي يقوّي به مناعته الباطنية، ودعمٌ معنوي وتعاطفٌ مع كلّ من تضرّر جرّاء القوانين أو غيرها، ولكن في تصوّرها واستيعاب مساراتها وحيثياتها وسياقاتها وأجزائها؛ ذلك أنّ استيعاب مفهوم الدعاء وتتبع جزئياته وفكّ ما يحيط به هو جزء من عملية الخطو نحو الطريق الصحيح، من طريق إعمال العقل والنظر، والتأمل والتفكّر، والارتقاء في مدارج الفهم، والتخلّص من الصور التي تراكمت على الذهنية الإنسانية؛ فالعقل يجب أن يُصفّي ويرتقي وينتقي ويتصل مباشرة بالنص القطعي الدلالة، ويرى بمنظار الأصول والنسق الكلّي الجامع مع دمج ذلك كلّه بالمقاصد الدينية الكليّة، مثل أصل المحبّة الإلهية والإحسان الإلهي، عدا ذلك لن ينمو هذا العقل، بل سيعيش خرابًا ودمارًا مستمرًا، ليرى نفسه أنّه الأفضل، مع العلم أنّنا في الواقع لسنا الأفضل، لا ماديًا لا اقتصاديًا ولا سياسيًا، ذلك أنّ نمط تفكيرنا مخرّب ولا يؤدي إلى أيّ صعود، ولا على أيّ صعيد.
أخيرًا، هذه هي الحقيقة المُرّة التي يتهرّب منها الكثير من الناس، ونتذوّق مرارتها دائمًا، فنبتلعها ونستسيغ مرارتها، لنتقيأها دون أن نرى الجهاز الذهني الذي نفكّر به وما نؤمن به، فنتصيّد من جديد من حيث كانت القاصمة، وما الدعاء سوى نموذج لتلك المفاهيم التي تشوّهت.