محمد أبو الغيط.. والسير نحو الضوء!
لم يكن محمد في الرابعة والثلاثين من عمره حين أعلنت زوجته أنه فارق الحياة، ولم يكن في الثلاثين قبلها، ولا العشرينيات حين كان وجهًا من وجوه الثورة وما بعدها، ولم يكن في أي يوم يوافق عمره المسجّل بالأوراق الرسمية، لأنه باختصار لم يختَر ذلك، ولم يؤمن به ساعةً، حسبما يستشفه العاقل من قراءة الوجوه والتقاط الملامح.
أي شاب ثلاثيني ذلك الذي ينجز هذا الكم؟ وبهذا الكيف؟ لا يدرك هذا إلا إنسان عرف الحقيقة من البداية، أنه لن يمضي وقتًا طويلًا هنا، أنّ الحياة كلها "منفاتة"، وبسرعة رهيبة، وأنّ الأثر هو الذي يبقى لصاحبه حين لا يبقى شيء من جسمه إلا للتراب. تقرأ له المقالات، فتشعر به كاتبًا في السبعين من عمره، وقف على سرّ الخلطة العجيبة، وعرف كيف يجعلك تستثني مقالاته شديدة الطول من مللك من النصوص الكبيرة، وكأنه يومئذٍ يكتب للناس حكمَه، ويكتب للثورة دستورها، ويكتب لرفاق الشارع والميدان رسائل لن يدركوها إلا بعدما يدركه هو بعشر سنوات على الأقل!
وتقرأ له تحقيقاته الاستقصائية، فتشعر أنك تطالع تقريرًا عمل عليه صحافيون جاوزوا ثلاثين سنة من أعمارهم على الأقل، في مشوار الصحافة حتى يسبروا أغوار هذه المساحات العميقة المظلمة، الشائكة، ومن يستطيع العبور إلى هذه المناطق إلا باسمه الذي بُني بالتراكم منذ عشرات السنين، أو بالقفز شابًّا رشيقًا بجهد مضاعف مئات المرات، من فوق الأسلاك الشائكة؟ حين تقرأ تحقيقات محمد، ستعرف أنه يفضّل عبور الأسلاك الشائكة.
حين تقرأ تحقيقات محمد، ستعرف أنه يفضّل عبور الأسلاك الشائكة
ثم حين تقرأ له نصوصه في المرض، ستحتار، من الطبيب ومن الممرض ومن المريض؟ أي إنسان يحتفظ بفضوله تجاه المعرفة إلى هذه الدرجة، في غرفة لا يشاركه فيها إلا زوجته، والسرطان؟ كأنني أسمع المعلّق من بعيد يقول: "احترم عقولنا يا رجل!"، هل من إنسان يملك هذه الهمة كلها (ما شاء الله)، وهو في هكذا وضع متأزم؟ كان يتابع العلاجات ويراسل شركات الأدوية ومراكز الأبحاث والدراسات ويهتم بكلّ جديد في مرضه أو تطورات علاجه، لأنه فقط محمد أبو الغيط، الذي يحب مواجهة "الضجيج" في هدوء.
كنت أقرأ ما يكتب، وأنا لا أقوى على القراءة، ولا أنام بعد نصوصه ربما، وأقول كيف يقوى هو على الكتابة؟ وقبلها كيف يقوى على المعايشة؟ ابتلاء مهيب، وألم مزلزل، ووجع فائق، في وجه عينين، وديعتين، نهمتين، شغوفتين، أديبتين، مهذبتين، عفيفتين، تحبان الحياة!
نُفي محمد، عقابًا على مواقفه، لا هربًا من دفع ثمنها، فالغربة ثمن سخيف وصعب، يظنه الناس رفاهيةً، وهم لا يرسلون إليه نهاية الشهر إيجار المسكن باهظ الثمن ولا مصروفات البيت التي لا تنتهي، فهنا يمكنك العمل في أي شيء، وفي كل شيء معًا، لأنك تريد مواكبة العالم المتقدم حولك، وأنت قادم من عالم سحيق، يعمل فيه الناس بأجر شهر، يقابل أجر ساعة هنا، في الموطن المؤقت الجديد.
نُفي محمد، عقابًا على مواقفه، لا هربًا من دفع ثمنها
سافر الرجل وكان واقعيًّا، لم يبكِ كثيرًا على الأطلال، يتحرّك بحرقة، ويدفعه وقود ذاتي، نحو إنجاز المزيد، كأنّ عدّاد الحياة، وإنذار الموت، كانا أمامه منذ أول لحظة، فيقطع الدنيا ذهابًا وإيابًا، في يوم واحد، كل يوم، لينقل للناس، جاهدًا، الصورة من الزاوية الفريدة التي يراها منها، وكان هذا هو الدرس الأكبر من حياة محمد أبو الغيط، الصحافيّ، أَم الطبيب؟ أم الكاتب؟ أم الثائر؟ لا أعرف، ربما سنكون أكثر دقةً حين نقول "حيوات محمد أبو الغيط"، لا "حياته" وحدها، لأنه كان ثلاثة في واحد، أربعة؟ خمسة؟ أو ربما كان يلخصنا جميعًا.
نعم، توفي محمد أبو الغيط، رحمه الله، بل ودُفن في طين لندن البارد، لن ننكر اللحظة، ولن نعيش بوهم عودته، لأن وجوده بين أحبابه حقيقة، ولا يعود إلا من غادر، أما من لم يغادر فلا يعود، لأنه مقيمٌ، ولكن بطريقته، انتقل فقط من سكنَى بيته، إلى السكن في أرواح الذين عرفوه من قرب، أو أعجبوا به من بعد، يسرج بداخلهم تلك القناديل، ويشعل النور، الذي من أجله قد يكويهم عود الثقاب، لكن الضوء المنبعث بعده سيجعل تلك اللحظة التي أفاقوا فيها هي لحظتهم المفضلة.
فارسًا يعلم إلى أين هو ذاهب، يدرك وجهته، عينه على نهاية الطريق، وقلبه يسمع صدى دقاته في آخر النفق، يبتسم ابتسامته العريضة المعهودة، يكتّف ثناياه بخجل شفتيه السريع، كأنه يعتذر عن ضحكه في وقت جديّ، يشق الهواء فوق جوادٍ لا يراه غيره، ويمسك بالقلم سيفًا ورمحًا وعلمًا في الآن ذاته، وينادي وهو آتٍ في سرعةٍ وجلة من بعيد: "أنا قادم أيها الضوء".