ما بين وداع صديقي وفراقه شهيداً في غزة

31 ديسمبر 2023
+ الخط -

"ليس موجودًا في خيمة الجثث لكنّ أباه هنا"، "الحسن يجري عملية جراحية في قسم العظام في الطابق الأول من المستشفى، وهو غائب عن الوعي"، "يمكنك البحث عن جثته في ثلاجات الموتى".

ثلاث عبارات كانت تدور في رأسي كعقارب الساعة الثلاثة على مدار يومٍ كامل. هكذا كان حالي يوم الاثنين في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الثاني والثاني عشر من الشهر ذاته. فُصلت عن العالم كلّه كقابس من مقبسه، ولم يعد في قلبي نقطة دم تتحرك منذ أن جاءتني تلك الرسالة المُريبة: "استُهدف منزل عائلة مطر في شارع البيئة" في قطاع غزة.

في ظهر ذاك اليوم العصيب الحادي عشر من ديسمبر/كانون الثاني، كنت أنا وابن عمتي حسن نصعد الدرجات، فإذ بنا نسمع دويّ انفجار حادّ. أكملنا الصعود إلى أعلى السطح لنرى ونخمّن أين مكان الانفجار. "في شارع النخل تقريبًا أو حواليه" أخبرت ابن عمتي بذلك. لم أتخيّل البتة أنّ الضربة كانت لبيت صاحبي.

لم أكثرت في بداية الأمر، فتخميني كان يبدو صحيحًا نسبيًّا. جلست على كرسي وأخذت لابتوبي الخاص لأستطلع آخر الأخبار على منصة إكس (تويتر سابقًا)، وإذ برسالة هزّت أركان قلبي تصلني من صديقي الصحفي عبد الرحمن إسماعيل الذي هو صديق الحسن أيضًا: "أبوبكر، مستهدفين دار مطر في شارع البيئة. هيني بحاول أعرف إذا دار الحسن ولا لا".

كلانا كان يعلم أنّ المُستهدف هو منزل صديقنا الحسن، ولكنّنا كنّا نحاول خداع أنفسنا بمحاولتين أو ثلاث للتأكد. قمت مفزوعًا من مكاني لأخبر عائلتي بذلك، فللحسن مكانة خاصة عندهم كابنهم. "استهدفوا دار مطر" أخبرتهم بذلك. "أمانة؟" أبي يتساءل. لم يكن لديّ وقت لأجيب فهرعت إلى جوّالي وضغطت أزرار الهاتف مئات المرات طالبًا رقمه من دون استجابة.

حملت نفسي بسرعة إلى مستشفى شهداء الأقصى لأعلم ماذا جرى لصديقي، مع علمي التام بخطر الذهاب لسنتيمتر واحد خارج المنزل. وصلت المستشفى ثمّ دخلت قسم الطوارئ سائلًا أناسًا عشوائيين: "وين عائلة مطر؟". أخبرني أحدهم: "مبنعرفش عنهم كلهم ولكن في شخص في قسم الإنعاش اسمو كريم".

أدركت أنّ هذا هو أخو الحسن الأصغر، فركضت إلى الداخل لأراه. كان منظره عصيبًا وحالته صعبة للغاية. ثم طلب منّا الطبيب أن نحمله وننقله إلى قسم العمليات في المبنى المجاور. وفي أثناء تنقّلي بكريم، تابعت سؤال الناس عن الحسن لكنّني لم أجد أيّة إجابة. 

ذهبت إلى خيمة الجثث، وسألت المسؤول هناك: "أنا صاحب الحسن مطر، وين الحسن؟" أجاب أحد أقاربه وقد كان وجهه متخشبًا من الحزن: "بنعرفش اشي عنه بس أبوه هيو مستشهد أعطاك عمرو". أصبحت في ثانية في دوامة من الانهيار وأصبحت عيوني مليئة بالدموع وبالكاد استطعت الذهاب إلى المنزل.

أصبحت في ثانية في دوامة من الانهيار وأصبحت عيوني مليئة بالدموع وبالكاد استطعت الذهاب إلى المنزل

رجعت المنزل ورُميت بين أحضان أهلي الذين انكسرت قلوبهم بسماع خبر استشهاد الحسن غير المؤكد وخبر استشهاد أبيه القطعي. عمّ الحزن أرجاء المنزل، وتركوا فناجين الشاي جانبًا ليستوعبوا الصدمة. في ذلك الوقت، كان أبي وهو صديق أبي الحسن في المستشفى، يرثي صديقه ويسأل عن بقية أهله.

ثم عند رجوعه إلى المنزل أخبرني: "الحسن بخير، هيو في قسم العظام بعمل عملية حساسة". رجع قلبي لينبض على نحو سليم، ثمّ قلت: "الحمد لله". ظللت أدعو له لكنني أردت التأكد أكثر من الخبر.

عندما غادرت أشعة الشمس سماء قطاع غزة المغطاة بدماء الشهداء والمعكّر صفوها بالبارود والدمار، اتصلت بصديقي خالد أبو حبل، وهو طبيب في مستشفى شهداء الأقصى لكي أطمئن أكثر على الحسن.

قلت له: "خالد، كيف حالك؟ الحسن صاحبي اللي طلعنا معاه قبل شهرين على البحر قصفوا دارو اليوم، أمانة تشوفلي إياه". مكث خالد أكثر من عشرين دقيقة وهو يبحث عنه دون رؤية اسمه على روشتات الأطباء أو في قسم الاستعلامات، أو حتى في خيم الجثث أو ثلاجات الموتى.

بدأ القلق يشلّ أركاني، وأصبحت الساعة نحو السابعة مساءً. لم يكن باستطاعتي التوجّه إلى المستشفى فالوضع في غاية الحساسية والخطورة، لذا بقيت أفكر في الحسن وأدعو له بالشفاء والنجاة، ثم فجأة غططت في النوم مبكرًا على غير عادتي من شدّة القلق.

في صباح اليوم التالي نحو الساعة الثامنة صباحًا، استيقظت من النوم وكلّ تفكيري منصبّ على رؤية الحسن. حملت نفسي بالعافية وقدماي ترتجفان من الخوف في الطريق ولساني لم يتوقف عن الدعاء بأن أسمع عنه كلّ الأخبار الجيّدة.

لم تكن لدي الجرأة أن أفتح الثلاجات، فرؤية الشهداء هناك تشطر القلب نصفين والمشهد لا يُوصف

وصلت المستشفى إلى قسم الاستعلامات مباشرة، فسألت الموظف عنه. فأمرني بالانتظار لخمس دقائق. لم يكن بوسعي ذلك، فثانية كانت سنة من الانتظار بالنسبة لي. ثم حملت نفسي إلى خيم الجثث مجدّدًا لأسأل عنه، فأخبرني عن أبيه، وقال إنّ اسم الحسن لم يصله البتة. 

ثم ركضت مسرعًا نحو ثلاجات الموتى. سألت هناك فأخبروني بأن أبحث عنه بنفسي. لم تكن لديّ الجرأة أن أفتح الثلاجات، فرؤية الشهداء هناك تشطر القلب نصفين والمشهد لا يُوصف. فتحت الثلاجة الأولى فلم أقرأ اسمه. ثم إذ بي أقف عند باب الثانية وعيناي منهارتان، فتحتها ولم يكن اسمه موجودًا. ثم تسلّلت إلى الثالثة كسارقٍ ونظرت إلى الأوراق التي خلت من اسمه. حمدت الله عزّ وجل، وأفعم الأمل في قلبي.

رجعت إلى قسم الاستعلامات، أخبرني الموظف: "الحسن وئام مطر استشهد". نظرت إلى السماء ودعوت الله بالرحمة له وسألته مرّة أخرى عنه. أمرني بالانتظار حتى يتأكد. ثم بعد أقل من دقيقة، إذ بجملته: "نعم، الحسن وئام مصطفى مطر استشهد" تخرق قلبي وجعًا وقهرًا. هكذا هو الحال في غزة؛ فلكي تعرف أنّ أحدًا من ذويك أو أحبّائك بخير، عليك أن تجتاز هذه المتاهة. فعقرب الألم وعقرب القهر وعقرب الفقد استمروا في تعذيبي طيلة أربع وعشرين ساعة.

فاضت عيناي بالدموع، وأُصبت بحالة من الانهيار والاكتئاب المفاجئ وغادرت إلى المنزل شاحب الوجه ومرهق العينين مستمرًا له بالدعاء.

صحيح أنني لم أستوعب الأمر أبدًا، وفقدت شيئًا من نفسي، لكن الحسن لن يغيب البتة عن بالي. هو حبيبي الذي سيرافقني في كلّ خطوة كما كنّا في السابق، وستبقى ذكراه مثالَ الجمال في عينيّ.

أبو بكر عابد
أبوبكر عابد
كاتب فلسطيني من دير البلح. يعرّف عن نفسه بالقول: "عشرون عامًا وخمسة حروب بطموح ملطخة بالدم المفعم بالأمل هو عنوان كتاب حياتي الذي أدقق عثراته بين الحين والآخر. أحمل طموحًا وأحلامًا على كاهلي المثقلين لأكون في زمن أصعب شيء فيه أن تكون".

مدونات أخرى