ما بين "القوة الغاشمة" و"حماة الشريعة"

14 فبراير 2018
+ الخط -
في الحادي عشر من فبراير/شباط نشر تنظيم "داعش" في سيناء إصداراً جديداً بعنوان "حماة الشريعة". 

وجاء الإصدار بعد أربعة أيام فقط من عملية عسكرية موسعة أعلن عنها الجيش المصري فجأة في سيناء وهو الذي يخوض حرباً غاشمة هناك منذ أربع سنوات لا نعلم عنها سوى ما يخرج من بيانات المتحدث العسكري أو من إصدارات التنظيم المختلفة التي تفضح ضعف الجيش أمام حفنة من المسلحين، أو من بعض المحاولات المتواضعة والجريئة من بعض الناشطين من أبناء سيناء لتوثيق ما أمكن من جرائم الطرفين في حق المدنيين.

قد يكون توقيت الإصدار الأخير مفهوماً في سياق حرب الصور والبيانات بين طرفين متصارعين، لكن مضمونه بالتأكيد ليس بريئاً ولا عشوائياً، إذ أتى الفيديو مفخخاً ببعض الحقائق التي قد تبدو صادمة من الوهلة الأولى لكنها في حقيقة الأمر ليست إلا امتداداً وتطوراً طبيعياً ومنطقياً لأحداث سابقة. وسواء أكد أو فند بعضاً مما كان مثار جدل أو محل تشكيك من قبل، إلا أنه حمل من الدلالات والقرائن ما يكفي لخلط الأوراق بشكل يبدو متعمداً لمزيد من إرباك المشهد العام في مصر.

في هذا السياق استوقفني أمران أحاول بهما جاهدة إعادة ترتيب اللقطات المبعثرة لرؤية أكثر وضوحاً حول دوافع الإصدار وما وراءه من أسئلة بديهية قد تحمل في طياتها أيضاً إجابات لأسئلة أكبر عن دوافع عملية الجيش "الشاملة" في هذا التوقيت.


أول الأمرين يتعلق بالانتخابات الرئاسية التي ستشهدها مصر بين 26 إلى 28 مارس/آذار المقبل وفق إطار ضيق مرسوم دون منافسين حقيقيين لضمان بقاء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في الحكم لفترة أخرى. إذ لأول مرة يهدد التنظيم باستهداف المقار الانتخابية مستنداً على رصيده الحافل بتنفيذ تهديداته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، استهداف الكنائس ومساجد الطرق الصوفية موقعاً قتلى ومصابين بالعشرات. لذا فالقاصي والداني في مصر يعرف الآن أنه جاد في تهديده هذا أيضاً، وهو ما قد يؤثر على أعداد الناخبين بصورة كبيرة.

لكن يُلح على ذهني تساؤل؛ ماذا لو لم يكن هناك تهديد؟ هل ستكون أعداد المصوتين بمئات الآلاف أو بالملايين كما حدث في أول انتخابات رئاسية ديمقراطية عام 2012؟ ستجيب وقائع انتخابات الرئاسة في 2014 بما لا يدع مجالاً للشك بأن أغلب اللجان وبدون تهديدات أمنية خلت من الناخبين إلى الدرجة التي اضطرت معها لجنة الانتخابات إلى تمديد التصويت يوماً آخر، مع الأخذ في الاعتبار أن شعبية السيسي ونظامه العسكري كانت لا تزال في أوجها.

فلنُثَبِّتْ هذه اللقطة قليلاً ونضع إلى جوارها لقطة حديثة لشريحة المعارضة والناقمين على النظام اليوم وقد اتسعت لتضم إليها كثيرين ممن شاركوا في مظاهرات 30 يونيو ودعموا أو شاركوا في الانقلاب العسكري 2013 بمن فيهم بعض أعمدة النظام نفسه كالجنرالين الكبيرين سامي عنان وأحمد شفيق.

فماذا نتوقع في اللقطة التالية؟ إنها اللقطة التي لا يريد لها السيسي أن تتكرر في انتخابات 2018 وقد عبر عن ذلك بجلاء في أكثر من مناسبة عندما حث الشعب بلهجة استجدائية للمشاركة في الانتخابات. لكن إن تكرر مشهد 2014، فمن الأفضل للسيسي ألا يكون السبب نابعاً من انحسار شعبيته أو انفراط عقد نظامه. قد يكون تهديد إرهابي السببَ في منع الناس من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. لذلك يبدو واضحاً كيف سيقدم إصدار "ولاية سيناء" عذراً منطقياً يغطي سوأة السيسي ونظامه في الانتخابات المقبلة. لا أقول إن ثمة تنسيقاً وتعاوناً مباشراً بين النظام والتنظيم لكن المؤكد أن هناك في أروقة الدولة العميقة من يجيد الاستفادة من وجود التنظيم لخدمة مصالحه.

وليس ببعيد عن ذلك، الأمر الثاني الذي لفت انتباه كثيرين في الشريط المصور، وهو ظهور أحد أبناء قيادي جماعة الإخوان المسلمين محيياً زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي. وهو عمر إبراهيم الديب الذي بدأت قصته عندما فر مع والده إلى خارج مصر عقب الانقلاب العسكري.

وبشكل مفاجئ قرر الشاب ابن الواحد والعشرين عاماً العودة إلى مصر لتنقطع أخباره عن ذويه نهائياً حتى ظنوا أنه اعتقل وأخفي قسرياً من قبل نظام السيسي كما هو الحال مع كثيرين من شباب جيله.

في شهر سبتمبر/أيلول 2017 أصدرت وزارة الداخلية المصرية بياناً عن عملية أمنية استهدفت شققاً سكنية في منطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة، كانت تؤوي عناصر من تنظيم الدولة وأثناء المداهمة قتلت 10 منهم بعد اشتباكات مع الأمن وكان من بين القتلى عمر.

حينها نفى أنصار جماعة الإخوان رواية الداخلية وقالوا، إن النظام اختلق هذه الرواية لتبرير قتل الشاب وإن ما حدث مدبر ومسرحية لقوات الأمن. تمسك معارضو الانقلاب في منابرهم الإعلامية بروايتهم حتى بعد نشر إعلامية مصرية صورة للديب وهو يحمل السلاح في ليبيا قبل 3 أشهر من تاريخ إصدار تنظيم الدولة في 11 فبراير/ شباط.

وفي التفاصيل فإن المؤكد، أن الداخلية المصرية كانت لديها معلومات عنه. فقد أكدت لي مصادر قريبة من عائلة عمر أن جهاز الأمن الوطني استدعى والدته قبل مقتله بشهرين وأجبروها على عمل تحليل الحمض النووي (DNA).

وهنا يبرز التساؤل كيف تعرف عمر على التنظيم؟ بحسب مصادر خاصة، فإن الشاب تواصل مع أحد أشهر الشباب المصريين المنضمين للتنظيم في مدينة الموصل بالعراق واسمه إسلام يكن وأبلغه عن رغبته في الانتقال لمصر "لقتال من يقتلون المصريين هناك". وبالفعل وصل عمر إلى مصر في نهاية عام 2016 حيث أوكلت له "مهمة إحياء تنظيم الدولة في ولاية مصر". وكان لافتاً تنقله بحرية داخل مصر حتى مقتله.

قصة عمر ليست استثناء، فكل القصص متشابهة وتنظيم الدولة لا يزال يمتلك جهازاً قوياً لتجنيد الشبان عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومخابرات كبرى الدول عجزت عن وضع حد لهذا النشاط. وكون والد عمر قيادي في جماعة الإخوان لا يجعل لقصته أي بريق كما يحلو لبعضهم أن يفعل، فهو مثل مئات الأسماء والقصص لشبان وشابات من ذوي الكفاءات في مجتمعاتهم ومع ذلك التحقوا بالتنظيم. وللعلم فإن عمر حاصل على عدة بطولات في المصارعة.

لكن توظيف هذه القصة من قبل النظام سيكون غاية في الخطورة. ففي الوقت الذي تصدر فيه منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" عشرات التقارير مستخدمة مصطلحات دقيقة لوصف مشهد حقوقي كارثي في مصر، سيتخذ النظام المصري من قصة عمر ذريعة ليبرر العنف ويواصل معه إخفاء مصير مئات المعتقلين قسراً في مصر. كانت منظمة العفو الدولية قد أشارت بوضوح إلى أن الأجهزة الأمنية والقضاء في مصر متواطئون في جريمة أصبحت ترتكب يومياً بمصر. بل لفتت المنظمة إلى أن ثلاثة إلى أربعة أشخاص يختفون قسراً يومياً في مصر.

كما أعلنت منظمات حقوقية مصرية تعمل أيضاً في ظروف صعبة وسرية، أنه ومنذ 2013 حتى شهر أغسطس/ آب من العام 2017، هناك 5500 حالة اختفاء قسري منها لأطفال ونساء. ولأن الأوضاع في مصر آخذة في المزيد من التدهور الحقوقي والإنساني فإن عداد المختفين قسرياً لا يتوقف. تخيل المشهد وألحِق به لقطة عمر داخل إصدار "ولاية سيناء" الذي فند رواية الاختفاء القسري لصالح النظام وأجهزته الأمنية.

ثم ضعْ إلى جانب ما سبق لقطات قديمة لجوقة السيسي الإعلامية وهي تردد صباح مساء ألا مكان لحقوق الإنسان في ظل الحرب على الإرهاب. ماذا سترى في اللقطة التالية؟! كيف ستحول أوضاع آلاف المعتقلين والمخفيين قسرياً بعد لقطة عمر؟ كم صورة ستنشرها أجهزة الأمن لشبان على أنهم كعمر وهم من العنف براء؟! لقد قرّب التنظيم سواء عن قصد أو بدونه رقاب آلاف المعتقلين والمخفيين قسرياً من المقصلة ووضعهم في طي النسيان. ثم يسألونك كيف قدم تنظيم الدولة خدمة أخرى عظيمة للنظام!! مرة أخرى لا أروج لنظرية تآمرية هنا. فقط أعيد ترتيب لقطات البازل.

وفي إطار هذا الترتيب، وبعيداً عن سرديات المظلومية التي يجيدها الإخوان لتحميل النظام فقط مسؤولية التحول الجذري لعمر وأمثاله بسبب الانقلاب العسكري وما تلاه من مذابح، وإن كنت لا أقلل من حجم هذا السبب ومن تضحياتهم، لكن لا يمكن أيضاً غض الطرف عن مسؤولية قادة الجماعة تجاه اندفاع بعض شبابهم نحو التطرف.

فخطاب "الحرب على الإسلام" الذي صدره قادتهم بعد الانقلاب ولا يزالون وما يحمله في ثناياه من تجييش للمشاعر الدينية، ترك هؤلاء الشباب فريسة سائغة لتنظيمات العنف والإرهاب التي تكفر بالسياسة كأداة فعالة للتغيير السلمي للسلطة. وقطعاً ساعدهم النظام العسكري في مصر على الترويج لبضاعتهم البائسة وضرب أقوى الأمثلة على ما آلت إليه حال الديمقراطية الحقيقة في مصر.