ما بين الإنسان والسباق البشري

11 اغسطس 2023
+ الخط -

إنّ حياة التسابق نحو المثاليّة التي تعيشها البشرية، تُشغل الإنسانَ أحيانًا، بحيث ينسى أنّه إنسان، له تركيباته النفسية الخاصة، كما وتُشغله عن الغوص في أعماق ذاته والتأمّل بها، وتقويمها أو الاعتزاز بها كما هي.

أمّا على صعيدي الشخصي، فأنا جزءٌ لا يتجزأ من هذا المجتمع البشري، وكم حاولتُ ألا أدخل في هذا السباق المربك نحو المثالية، لكنّي لم أستطع أن أتنحى جانبًا؛ وذلك لاشتباك المجالات الفردية في العمومية بشكلٍ لا يُطاق، أو بشكلٍ أجبرني على الخوض في براثن الأشياء التافهة؛ فهي وحدها في هذا الزمان، مسموعة ومرئية. فأن تجني مالًا باهظًا بعملٍ ما، جيد أو خبيثٍ أو سيئ، أهم من أن تكون إنسانًا يحملُ مبدأً وهويّة. فماذا تفيد هويتك ومبدأك طالما أنّك مفلس؟

حقيقةً، هذا السؤال من الأسئلة التي تُثير جدلًا، أو تشكيكًا واسعًا بأهميّة أن تكون عالمًا بهويتك أو ذاتك. وبالفعل، ماذا تفيدني ثقافتك، إن لم يكن لديك الحد الأدنى من القدرة على العيش في هذا العالم المادي؟

لا أنكرُ أنّني انجرفتُ مع هذا التيّار الذي يسألُ تلك الأسئلة، لكن بدون التشكيك بماهيّة الإنسان الذي صنع أو يصنع لذاته ثقافةً وهويّة. بل على العكس، كنتُ أعلنُ أنّ هُويتي وثقافتي، هما من جعلاني أعملُ كذا أو كذا، ولولاهما ما كنتُ هنا في هذا التدريب أو هناك في ذاك العمل. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكن، بصراحة، لم يُوصلاني إلى ما أريدُ، والهوية والثقافة كلاهما لا يُوصلان المرء إلى ما يريد. إنّما تلعبُ أشياء أخرى، أهم للأسف، دور الحافلة التي توصل الإنسان إلى ما يريد. وهذه الأشياء قد تكون مالًا يُضاف إليه مال، أو مظهرًا يُستثمَر به ويُستَغَل، أو نفوذًا واسعاً يساعدك كي تصل إلى أيادي عالية تملك منصبًا في الدولة، أو مهارةً خارقة وخبرةً جديرة في أن يبدأ المستثمرون استغلالها من خلالك.

إنّ الحياة اليوم، في الأسواق والدولة والحبّ والأهل.. تتطلبُ إنسانًا مثاليًا خارقًا يلبّي كلَّ احتياجاتها المادية والمعنوية، بينما لا يتساوى المقابل مع ما يتم تقديمه. بمعنى آخر، مطلوب أن تكون موظفًا مثاليًا في هندامك ومهاراتك، وفي المقابل تحصل على أقل حد ممكن من الأجر. والحب كذلك، يطلبُ الطرف الآخر أن تكون مثاليًا في هندامك وأخلاقك ومكنوناتك الداخلية والخارجية وما تملكه من أدوات مادية، وفي المقابل تلقى بردًا وشتاءً من عاطفة الشريك، وانزياحًا عاطفيًا نحو غيرك الذي يملك ما لا تملكه.. وهكذا دواليك. حتى الأهل، ينجبونك ويريدون منك أن تكون خارقًا، شكلًا ومضمونًا، وأن تكون مذهلًا في قيمك وأخلاقك تجاههم،  وتلبي لهم كلّ احتياجاتهم المادية والمعنوية، وفي المقابل تلقى جفافًا عاطفيًا وإنكارًا لا يُستهان به ونظرةً دونية قاسية.

المسافة ما بين إشباع الإنسان لرغباته وعدم الإشباع مقلقة، تضعف الإنسان، تستفزُّ نواقصه الداخلية والخارجية، وتبرز أمامه كلّ عيوبه

الحياة خارج ذاتك قاسية، فلا تجعلها في داخل ذاتك قاسية أيضاً. طبعًا هذه عبارة ربما ملفتة، ولكنها تعدّ من العبارات الجاهزة التي تأتي دون تفكير عميق. فإذا فرضنا عليها التفكير العميق، فالجانب الأول من العبارة يرى الحياة من وجهة نظرٍ أحادية؛ فالحياة أكثر من ذلك بكثير، ربما تكون قاسية ولكن تكون في الوقت ذاته ممتعة أو ملهمة أو ذات معنى، ولو كانت الحياة سهلة لما ظننا أنّ هناك أهمية لها. قد تكون قاسية لكنها تستحق أن نخوض قسوتها. بينما الجانب الثاني من العبارة، هزلي أو غير منطقي، أو لا يحملُ في طيّاته الكيفية التي يجب العمل عليها من أجل وقف الصراع الداخلي الذي يعيش في الإنسان منذ الأزل، ولن يتوقف أبدًا.

المهم، يا أعزائي وعزيزاتي، هذا السباق البشري الذي نشهده، يعزّز عوامل النقص لدى الإنسان. لماذا تفرض الشركات التجارية بدلةً رسمية دون أن تكترث لمن لا يملك ثمن البدلة! أو لماذا يفرض الأهل على الأبناء أن يكون بنفس نمط فلان، وفلان لديه رفاهية الاختيار والعيش والقرار! ومن يملك رفاهية الاختيار لا يقارَن بمن لا يملك من الخيارات شيئًا.

منذ صغري وأنا أمشي بجانب الألم والملل. كان الألم في أول طريقي يحاصرني، ويجيدُ استنزافي، أمّا وقد اعتدته وواجهتُ معظمه لم أعد أشعر به كثيرًا، إنّما اليوم ما هو مسيطر أكثر هو الملل. يقول الفيلسوف الألماني، أرتور شوبنهاور: "الحياة كالبندول تتأرجح ما بين الألم والملل". وأفسّر هذا، بأنّ الإنسان دومًا لديه الرغبات والحاجات، حيث يشعر الإنسان بالألم والتعاسة والشقاء حال لم يشبع هذه الرغبات والحاجات. بينما يشعر بالملل والفتور في حال إشباع هذه الرغبات والحاجات. ولكلّ إنسان على هذه الأرض ما يكفي من الرغبات التي بعضها تمّ إشباعه، والبعض الآخر في طور الإشباع. والمسافة ما بين الإشباع وعدم الإشباع مقلقة، تضعف الإنسان، تستفزُّ نواقصه الداخلية والخارجية، وتبرز أمامه كلّ عيوبه، وتجعله إما قادرًا على تجاوزها وتقويمها، أو تجعلهُ غائرًا في مستنقعات عيوبه ونواقصه.

الخلاص يبدأ بإعدام فكرة الأنا كجوهر أساسي في الحياة، بالتالي انعدام جميع الرغبات التي تنشأ من الأنا، وتقبّل الألم بكلّ حفاوةٍ وسرور

منذ صغري، كانت رغباتي على قدري صغيرة، تتمثل برغبتي في أن يكون مصروفي اليومي كباقي زملائي وليس أقل، وحين تحقّق الأمر لم أعد ألتفت إليه. وعندما كبرتُ أكثر، صارت رغبتي في أن تكون ثقافتي كباقي زملائي في الجامعة وليس أقل، وحققتها ولم أشعر أنّ للأمر أهمية، وقد التفتُ إلى رغبةٍ أخرى، وأخرى.

يقول شوبنهاور أيضًا: "لكي نصل إلى ماهيّة الأشياء يجب ألّا نبدأ من الخارج". وفي هذا عزاء للأشخاص الأقل حظًا في الحياة؛ فالخلاص الدائم من قسوة الحياة، هو البدء بالذات وتصوّراتها الذهنية عن الحياة، وإمكانية تعديل الذات وتصويب مساراتها وتصوّراتها. والخلاص يبدأ بإعدام فكرة الأنا كجوهر أساسي في الحياة، بالتالي انعدام جميع الرغبات التي تنشأ من الأنا، وتقبّل الألم بكلّ حفاوةٍ وسرور. ولكن ربما في هذا الفكر نجد انهزامية وغير منطقية في كثير من الأحيان؛ لماذا نتقبّل الألم طالما نحن قادرون على مواجهته؟ أما بالنسبة لفكرة إعدام الرغبات، فما الإنسان بدون رغبات وحاجات؟ أليس الإنسان عبارة عن هوية شخصية لديها رغبات؟ كذلك، هذا الفكر أيضًا ينحاز إلى الخارج بشكل مبالغ فيه، بحيث يشير إلى جلد الذات بقسوة، وقد تكون الذات سليمة نسبيًا، ولكن خارجها هو المشكلة. وهنا، قد لا يصح أن يكون الإنسانُ لوّامًا، ولكن قد تكمن المشاكل أيضًا في الخارج، أو الطرف الآخر خارج الذات.

تكمن فكرة الخلاص في محاولة منح الحب الكلّي والتعاطف الشامل لجميع الموجودات، والنظر إلى العالم بأنه أتى ليخدمك، والتفكير بطريقة تكتيكية تتماشى مع الظواهر الموجودة في الحياة، بحيث لا تطغى على ماهيّة الذات والهوية الإنسانية. كما أنّ رؤية الحياة بمنظار إيجابي، يخدم الظواهر الحياتية الموجودة ولا يخدش الذات، بحيث يكون هذا المنظار له تأثير قويم في إعداد الإنسان للسباق البشري دون محاولة إيقافه؛ فإنّ كلّ محاولة لإيقاف السباق ستكون غير مجدية على الإطلاق.

الريماوي
محمد الريماوي
كاتب ومدوّن. خريج جامعة بير زيت. له اهتمامات في اللغة العربية والكتابة الإبداعية والشعر وكتابة الأبحاث والمقالات، ويقدّم محتوى مرئيًا ومسموعًا على منصات التواصل الاجتماعي.