ماذا يفعل "التعويم" بالرجال والنساء في مصر؟

04 يناير 2023
+ الخط -

يفتح آلته الحاسبة، على هاتفه الذي انكسرت شاشته قبل شهر ولم يغيّرها لأنّ البيت أولى بخمسين جنيها، يحسب كم أصبح راتبه بالسعر الجديد للعملة الأجنبية، وهو مقتنع أنّ الأمر لا يقاس هكذا، لكن من باب زيادة الحسرة، ولأنّ الواقع أفظع من هذه "الحِسبة"، ولأنّ الناتج الذي سيخرج، لن يكون أسوأ حالًا من الوضع الذي يعيش فيه، يغلق الرجل هاتفه، يضغط عينيه بباطن كفيه، يتوقف عن الكلام، والبحث، والضحك، والسخرية، ويبكي من الداخل، ثم يواصل عمله لأنه سيُسأل بعد قليل عما أنجزه.

يخرج إلى الشارع، فيجد كلّ شيء لا يضحك، ويجد النكتة ماسخة، والسائق متجهمًا، والبنايات التي تعلوها أطنان من تراب المدينة الرمادي، المختلط بعوادم السيارات المترسبة عبر عشرات السنين، حزينة، باهتة، وواجهاتها شاحبة، كوجوه ساكنيها، لا تعرف من أين أتت العدوى، من المساكن أم من السكان.

في المواصلات، أبواق العربات وحدها من تتحدث، أما البقية، فلا حاجة لهم إلا بالكلام، ولو احتاجوا إليه فلا قدرة لهم عليه، يختصرون الوضع، الحمد لله، وينظرون جميعًا إلى النوافذ، يراقبون البلد الذي يغرق كلّ يوم أكثر في تعويم جديد، وهم شهود الكارثة، وضحاياها، ثم يلتفتون إلى الداخل، في وقت واحد، ينظر بعضهم إلى السقف، أو إلى السائق، أو إلى الطريق، لأنهم لو استمروا في النظر إلى الخارج، فسينفجرون في اللحظة ذاتها بالبكاء، كأنه باص مدرسي يقلّ أطفالًا في الرابعة، عائدين من يوم دراسي طويل، لا موظفين عائدين من أعمالهم، وقد دهم الشيب رؤوس نصفهم، وقلوب النصف الآخر.

الحل ليس في شهادات الاستثمار ولا فوائد البنوك التي بلا فائدة، وليس في هذه الوحوش الضخمة التي تعمل في المنظومة الآيلة للسقوط نفسها

يمرّ الرجل على البقّال، يشتري نصف احتياجات البيت التي أرادتها زوجته، والتي بالكاد تعينهم فقط على مواصلة المعيشة، وتشغل أعضاء الجسم في وظائفها الحيوية، ولا يستطيع أن يشتري ما كان يشتريه أمس، لأنّ الأسعار اليوم أعلى، والغلاء أشدّ، "وبين البايع والمشتري يفتح الله"، فلا هذا يملك من الرزق ما ينفقه على بيته، ولا هذا يستقبل من الرزق ما يكسب به قوت يومه، كأن جائعا ينتظر من جائع آخر أن يناوله اللقمة.

يصل الرجل إلى البيت، أخيرًا، يطفئ نور الحمام قبل أن يلقي السلام، كأنه يسمع عدّاد الكهرباء المرعب، يدقّ داخله، ويغيّر الأرقام بسرعة رهيبة، وتفاجئه الفواتير بأرقام تساوي نصف مرتبه، ثم يفيق من حلمه المتيقّظ على صوت مشاغبة الأطفال، وعلى شكوى الزوجة، وعلى عشرين سببًا للنوم حتى تجهيز الغداء، لأنّ تلك الميتة الصغرى، قد تنجيه من دوامة الحياة.

النصّ كئيب؟ الجوّ النفسيّ للحديث بائس؟ رائحة شجن دفين؟ مذاق حزن مرّ؟ الواقع بالتأكيد أكبر من هذه السطور، لكنها جزء من الحقيقة، التي يعيشها الرجال العائدون من أشغالهم كل يوم، والنساء اللواتي يعملن ويدبّرن ظروف أسرهن، يحسبن القرش، والجنيه، والمصاريف، والتكاليف، والفواتير، والبيت، والأولاد، والمدارس، والحياة، وأم الحياة، ونصيب الدولة في الضرائب، والصناديق، والمصالح الحكومية، والمعاملات الرسمية، والكمائن، والكارتات، ورسوم العبور، ومصاريف الشحن، وكلّ شيء أكبر من أن تتحمله ثلاثة آلاف جنيه في الشهر.

يتجه إلى الله، يصلي، يدعو، يبتهل، يجهش، يبكي، ينتحب، يخترع مرحلةً من مراحل البكاء لم تعرّفها قواميس اللغة، ولا المعجم المعاصر، وهو بكاء داخلي ساخن، كأن نارًا مشتعلةً تحته في موقد العينين، يغلي، ويفور، ويصعد إلى الدماغ، وينزل غزيرًا من المحجرين، حتى يكاد خط الماء يصهر الجلد الذي تحته، والرجل قلبه متّقد، لأنه لا يعرف كيف سيعود بالطلبات الجديدة بعد الرفع من السجود والسلام، والعودة من صلاة العشاء.

يبكون، ويتعبون، ويمرضون، ويموتون، لكنهم لا يطيقون رؤية بياض الجوع على أفواه من يعيلون

لذا، فالأمر جلل، والموضوع كبير، فعلًا، والظروف لا تتحمل زعلًا إضافيًّا من أي جانب، وإنما على الناس أن يسع بعضها بعضًا، ما استطاعوا، ومن كان معه فضل جنيه فليغدق به على من لا جنيه له، والحل بالتأكيد ليس في شهادات الاستثمار ولا فوائد البنوك التي بلا فائدة، وليس في هذه الوحوش الضخمة التي تعمل في المنظومة الآيلة للسقوط نفسها، وإنما سيسعى الجميع أكثر لجلب دخل أكبر، ولو بجنيهين إضافيين، مقابل فترة عمل جديدة كاملة، لأنهم (على تحمّلهم) يبكون، ويتعبون، ويمرضون، ويموتون، لكنهم لا يطيقون رؤية بياض الجوع على أفواه من يعيلون.

وعليهِ، فعلى الرجال، وعلى النساء أيضاً، أن يتحملوا مشقة هذه الأيام، وليسهلها بعضهم على بعض، ويهوّنوها، يتحملوهم، يستوعبوا غضبهم، وثورانهم المفاجئ، والأمر بالتأكيد صعب، فمن يستطيع أن يضمّ بركانًا، أو أن يحضن سيلًا عنيفًا؟ لكنها الأوقات التي لا تُنسى، والوقفات التي سيتذكرونها ذات يومٍ أفضل، حين تزول الفاجعة ويذهب المرض، أو يتذكرونها عند الله، حين يذهبون أو يذهبن إليه، بما يظنون خيرًا أن يشفع لهم عنده.

ولذا، مهما قسا التعويم على أعناق الرجال، وعلى أفئدة النساء، ومهما أكل الفقر قلوبهم، ومهما اشتدّ الحنَق في صدورهم، ومهما التهبت الحمم التي في أجوافهم، ومهما بدر منهم من غضب وتعب وبكاء وعويل، فإنه لا تثريب عليهم، ولا جُرم، ولا لوم، في هذه الظروف الفواجع، وإنما سيبقون المقاتلين والمقاتلات، المكافحين والمكافحات، المجاهدين والمجاهدات... الأكثر نبلًا، والأشرف، والأعظم في التاريخ، وعلى الأقل، سيبقون كذلك، أبطالًا وبطلات أسطوريين/ات، في عيون أحبابهم الأوفياء، وأبنائهم الصابرين.