ماذا لو دفعنا سلفاً ثمن المحتوى الذي نريد؟

09 ديسمبر 2022
+ الخط -

لنبدأ تبصّرنا المحمود أو المذموم بسؤال يفتح بابًا للخيال: ماذا لو صار الأدباء يُبادرون بمشاركة فكرة لمنتجهم الأدبي القادم، ثم يضعون رابطًا لمن يرغبون في قراءة هذا العمل عبر صفحاتهم في مواقع التواصل، تقود المهتمين إلى صفحة الدفع الإلكتروني، وبمجرد دعمهم للمشروع يصبحون شركاء للكاتب بالأرباح المتوّقعة عند نشر الكتاب؟ هل ستغضب دور النشر؟

شخصيًا، لو أعلن الكاتب الياباني، مثلاً، هاروكي موراكامي، عن عملٍ روائي جديد، وأشار عليّ بدفع مبلغ عشرة دولارات حتى أتمكن من المساهمة في إنتاجه والحصول على نسخة موقعة من العمل قبل جمهور القراء، ربما مع الحصول على حق خاص بحضور مقابلة خاصة لم تنشر من قبل مع الكاتب، فسأدفع المال مقابل كلّ هذه الامتيازات.

ماذا لو أعفتْ دور النشر الكاتب من الحرج المتأتّي من تسويق نفسه وشرعت في إدارة مبادرات من هذا النوع؟

لنتخيّل ذلك، تُعلن الدار الأهلية في الأردن عن سلسلة جديدة للكاتب إبراهيم نصر الله، وأنّ العمل سيحتاج سنتين إلى ثلاث سنوات للظهور، ويتحدث عن كذا وكذا، ويخدم قضية كذا، وللمساهمة في إنتاج العمل، ولنغدو شركاء بنسب توزّع علينا مثل الأسهم، سنُنصح بالضغط على الرابط أدناه أو أعلاه ودفع مقدار من المال. هل يبدو الأمر تجاريًا وغير مريح؟

طيب، ماذا لو لم ينتظر القرّاء أحدًا وبدؤوا مبادرة لجمع مبلغ محدّد من المال لقاء تحويل عمل روائي أحبوه إلى عمل مرئي؟ ثم قدموا المال كعطاء بين يدي المخرجين الذين سيتقدّمون بملفات توّضح حجم الإنفاق على الطاقم والإضاءة والملابس ومواقع التصوير وغيرها من التكاليف. وكأيّ مناقصة ترسو على من يربح أقل مقابل جودة أعلى!

خطرتْ هذه الأفكار في بالي، وأنا أقلب الصفحة الأخيرة من رواية "خرائط التيه" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، المنشورة في عام 2015 عن الدار العربية للعلوم، وهي رواية تتخذ من مكة مركزًا لانطلاق أحداثها، تحديدًا في مكة، في موسم الحج، حيث تنزلق يد طفل من يد أمه ويتوه في الزحام.

مستقبل قد تتمظهر "ديمقراطيته" بأشكال لا نعرفها، تُعزّز حقّ الناس في اختيار المحتوى الراغبين في تلقيه من جانب، وتَحُدّ من المحتوى غير المرغوب أو تعدمه، من جانب آخر

هذه أول صفعة من التيه في الرواية، تتبعها صفعاتُ تيه لا ترحم، في الزمان والمكان والذوات، في نفسيات المجرمين، والمواطنين والزائرين والوافدين غير الشرعيين، وفي طريقة تعامل الأمن وردّ فعل العائلة ووقوف الغني والفقير عاجزين أمام الفاجعة، متساويين كما تفعل في الحج ملابس الإحرام.

ولعل صدور الرواية منذ سبع سنوات، كان بالنسبة لي سببًا لفتح باب التساؤلات عمّا لو كان بالإمكان الدفع باتجاه إنتاج ما نحب، بل وقيادة دفة الإنتاج بالطريقة ذاتها التي نضع بها إعجابًا أو قلب حب على ما يعجبنا في صفحات صانعي المحتوى، مما يشجّع أصحابها على الاستمرار.

ولكي أوسّع الفكرة وأحرّرها من قالب الأدب والكتابة والسينما، أتساءل عن إمكانية الدفع مقدمًا لصفحات مخصّصة في إنتاج محتوى تعليمي للأطفال مثلًا، تُعلن توجهاتها ورسالتها وخطتها.

رحّالة يضع تصورًا لخطته في الذهاب إلى دول يختارُها، ثم يشارك شكل المحتوى المتوّقع الذي سيشبه أحد أعماله المنشورة، والتي سيسعى من خلالها لـ"جذب الاستثمارات".

ثمّة أسئلة كثيرة قد تخطر في البال، ولكنها باعتقادي أسئلة تستبق الحدث، وتلقي نظرة على مستقبل قد تتمظهر "ديمقراطيته" بأشكال لا نعرفها، تُعزّز حقّ الناس في اختيار المحتوى الراغبين بتلقيه من جانب، وتَحُدّ من المحتوى غير المرغوب أو تعدمه، من جانب آخر قد تُضاعف من أسلحة الغني في فرض ما يريد أن يراه الفقير.

أقول ماذا لو، وأشارك أصدقائي الجالسين في المقهى رحلة السؤال.

يقول أحدهم بعد أن ينفث دخانًا في الفراغ الذي يحدّق فيه: ستكون هذه مصيبة العصر.

ويقول آخر بدأ يفكّر بمحتوى يدعمه: لم لا؟ صارت لدي قائمة بما أرغب وعائلتي أن نُشاهده.

وأقول: لا أستبعد أن يصير هذا شكل الإنتاج في العصر الحديث.

عبد الله زيود
عبد الله الزيود
كاتب فلسطينيّ أردني، يعمل أخصّائيًا تربويًا في مجالي الإثراء والدمج ومنسقًا لخدمات الدعم في المدارس العالمية، حاصلٌ على عدّة جوائز أدبية منها، جائزة مؤسسة محمود درويش عام 2015. صدر له رواية تحت عنوان "يلتهم نفسه بادئًا بقدميه"، ورواية لليافعين تحت عنوان "العودة إلى ما بعد الكوكب الأحمر"، ومجموعة قصصية بعنوان "باولا". يقول "هذا كل ما لديّ: الكتابة. لستُ أعرف طريقةً أسمى للعيش، ولا مهرب من كلّ حزن الكون... سواها".