ليلة الرعب وتوازن الردع
انتظرَ الفلسطينيون أكثر من مائة وتسعين ليلةً ليستكينوا إلى نومةٍ مؤقتةٍ عن هديرِ طائرات العدو فوق رؤوس الغزيين، وتعلّقت رقابُ ساكنةِ فلسطين المحتلة بأنوارٍ مبهجة لصواريخ ومسيّرات لن تسفك دماءهم في غزة، بل كانت أبابيل على قتلة كلّ العصور.
لقد كان الردُّ الايراني على استهداف مصالحه وقياداته ومقرّاته متوّقعاً. لكن أغلب اختلافات المحلّلين تمحورتْ حول التوقيت، ففي حين رجّح البعض تمادي إيران في تفكيرها بعقلٍ باردٍ في ردّ الاعتبار والثأر لاستهدافها المباشر، توقع آخرون أن لا يتأخر هذا الردّ رغم إكراهات توسّع النزاع وتغيّر المراكز.
شكّل هذا الردّ على ما يبدو ليلة الرعب التي لا نظنها مسبوقة في الكيان، من حيث دخوله في مواجهة مباشرة مع عدوّ استراتيجي له وزن إقليمي مهم، وهو لاعب ثانوي في عملية طوفان الأقصى.
إيران الغاضبة بدت أكثر حرصاً على استعراضِ مظلوميتها من خلال تصريحاتٍ بعثتها إلى الأمم المتحدة، لتحصر هذه المواجهة في حدودِ ردّ الفعل، مؤكدةً على قابلية الانخراط في المواجهة المتوازنة إذا ما اقتضت الحاجة، وبالتالي نجحت إيران في كشفِ نوايا التهدئة لديها لقطع الطريق على مسارات توسع دائرة النزاع، واكتفت بفرض توازن الردع لا غير.
نجحت إيران في كشف نوايا التهدئة لديها لقطع الطريق على مسارات توسع دائرة النزاع، واكتفت بفرض توازن الردع لا غير
لا يمكن الحديث عن توازن الردع دون تحقيق أدنى مستويات توازن الرعب، وهو ما عملت عليه إيران تقريباً منذ دخولها في مسار مغلق لتطوير قدراتها النووية منذ سنة 2005 رغم الكلفة الباهظة لمشروعها من حيث الإنفاق والعقوبات الاقتصادية.
هذا التركيز على التسلّح النوعي جعل عداوة الغرب والقوى الإمبريالية تتحوّل إلى عداوةٍ حذرة من طهران، خاصة بعد تواتر الأخبار عن تقدّمها الباهر في مشروعها النووي، ما يجعل التحليل السليم يُفضي إلى أنّها تحوّلت إلى قوةٍ استراتيجية معتبرة في المنطقة، تهدّد الكيان الصهيوني والمصالح الأميركية في المنطقة، بما خلق توازن الرعب من جديد، وأفضى إلى قدراتٍ للردع تستعرضها إيران كلّما تمّ تهديد مصالحها.
لم يعد يخفى على أحد أنّ إيران أصبحت تظهر بمظهرِ المارد القومي القوي في المنطقة، مارد يُحسن المناورة وإدارة الصراع بذهنية أباطرة الحرب الباردة. فالجميع يعلم نفوذ إيران في العراق وسورية وجنوب لبنان، إضافة إلى تشعّب علاقاتها مع الحوثيين في اليمن، فضلاً عن علاقاتها الوطيدة مع فصائل المقاومة في غزة، وأدوارها في عملية طوفان الأقصى.
وإذا أخذنا المنطق البراغماتي في الاعتبار، تستفيد إيران من الصراعات الدائرة في المنطقة لتجعل منها الحديقة الخلفية لكفاحها ضد القوى الإمبريالية، لكن الظاهر أنّ الهدف الإيراني يتجاوز ذلك بأشواطٍ كبيرة، من حيث أنّ المشروع الإيراني يقوم على رسمِ نظامٍ عالمي جديد، وبالتالي تتحوّل الصراعات الدائرة في المنطقة إلى أرضية خصبة لقلب المعادلة وتحجيم السيطرة التاريخية لأميركا وحلفائها على المنطقة، وفرض واقع أنّ إيران موجودة في المنطقة، وأنّها لن تسمح بتواصل الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط، لتصل إلى فكِّ عزلتها الجغرافية وتتحرّر من الحصار المضروب عليها.
الأكيد أنّ الردّ الإيراني ستنتج عنه تحوّلات جذرية هامة، والأكيد أنّ توازن الردع سيجعل من المنطقة صفيحاً ساخناً لمواجهات عدّة مؤجلة. لكن المهم في كلّ ذلك الآن أن ينام الفلسطينيون فوق أرضهم، وأن لا تُزاحم قنابل العدو أو تهدّد هويتهم وتجذرهم في أرضهم.