لمن تُقرع الطبول؟

15 سبتمبر 2024
+ الخط -

ولادة المحارب

 "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ" (الزمر: 6)

ما إن يفتحُ الإنسانُ عينيهِ لأوّلِ مرّةٍ، حتى يشعرُ بأوّلِ أنفاسِ الحياةِ، يتأرجحُ بينَ البراءةِ والخوفِ، وبينَ الفضول والرغبة في العودة إلى رحم الأمان. ثمَّ تنطلقُ الصرخةُ الأولى، إنّها صرخةُ الولادة، الإشارةُ التي تعلنُ قدومَ محاربٍ جديدٍ ليكتبَ سطورهُ الأولى في ملحمةِ الحياةِ، حيثُ سيستمتّعُ بطعمِ الفوزِ ويتجرّعُ مرارة الهزيمة، وهو يتقدّم كلَّ يومٍ نحو الكلمة الأخيرة في قِصّة الوجودِ، والتي سيتكفلُ الموتُ بكتابتها.

لكن يظلُّ السؤال: هل خرج هذا المحارب من الحياةِ منهزمًا أم منتصرًا؟

ما سيقومُ به في المعركة سيحدّدُ نصفَ الإجابةِ، أمّا النصفُ الآخرُ فلا يعلمهُ إلا علّامُ الغيوبِ.

هذه إذًا معركتُك يا ابنَ آدمَ، إيّاك أن تستسلمَ وتحنيَ رأسَك، فما خلقكَ اللهُ عبثًا، عليك أن تنتصرَ على عدوِّك.

العدو

"قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ" (الحجر: 33)

أحد أهم قواعدِ الحربِ هي أن تعرفَ عدوَّك حتى لا تنطلقَ سهامُك عشوائيَّةً وينتهي بها المآلُ إلى جسدِك.

في زمنٍ بعيدٍ، بعيدٍ جدًّا وفوق سبعِ سمواتٍ، خلقَ الله كائنًا هجينًا من طينٍ ونفخةٍ من روحِه، كان يجمع في داخلِه نارًا ونورًا، فإمَّا أن يعصي وإمَّا أن يطيع. خلقَ آدمَ وسجدت الملائكةُ له إلَّا واحدًا كان يكنُّ له البغضاءَ والحسدَ والاستحقارَ، إنَّه كائنُ النارِ إبليسُ، الذي احتقر مخلوقَ الطينِ ورفض السجودَ له.

أحد أهم قواعد الحربِ هي أن تعرفَ عدوَّك حتى لا تنطلقَ سهامُك عشوائيَّةً وينتهي بها المآلُ إلى جسدِك

ثم بدأت المعركةُ بين الطينِ والنارِ، وعرف آدمُ أنّ إبليسَ عدوُّه اللدودُ في حربِ الدنيا، وعليه أن ينتصرَ عليه حتى يعودَ للجنةِ بعد أن أُخرج منها بإغوائه. أقسمَ إبليسُ أن يغويَ ما أمكنه من أبناءِ آدمَ حتى يسحبَهم معه إلى النارِ.

ذلك هو عدوُّك الأوّل، إبليسُ، الذي يدسُّ لك المكائدَ. عليك أن تسدّدَ سهامَك نحوه، ستُخطئُ الرميَ أحيانًا، وسيحاول أن يُدخلك في شباكه وقد فعلها كثيرًا سابقًا، لكن الآن لن تسمحَ له. إنَّه عدوُّك ولا أحد يأمنُ عدوه، فلا تتردّد أبدًا في قتاله. واعلم أن ليس إبليس فقط عدوَّك في هذه الحرب..

الصديق اللدود

"إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" (يوسف: 53)

وشاء الله أن يجعلَ في داخلك صديقًا لدودًا، إمّا أن يكونَ معك أو ضدَّك، إنّها نفسُك، حليفةُ إبليسَ، نفسُك الأمارةُ بالسوء، تلك التي توسوسُ لك بالاستسلامِ وتقودُك إلى الشهواتِ. يحرّكُها إبليسُ بسمِّه فتبدأُ بنسفِك من الداخلِ حتى تسقطَ وتهزمَ.

إمّا أن تسمحَ لها بذلكَ وإمّا أن تروّضَها، فتكبحَ جماحَها بالاستغفارِ، وتجعلَها تركعُ لك بالعباداتِ، وأخيرًا تضمنَ ركوعَها لك بصالحِ الأعمالِ. وهنا تكونُ قد روّضتَ وحشًا كبيرًا يسكنُ داخلكَ، لو انقلبَ عليكَ ستصبحُ الكفةُ مائلةً لعدوِّك. لذا احرصْ على ترويضِها حتى تحققَ غايتَك وتنتصرَ. ولكن...

لمن تُقرع الطبول؟

 "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة: 23 - 22)

لا أحدَ يحاربُ دون حاجةٍ في نفسِه، لا أحدَ يتكبَّد عناءَ استلالِ سيفِه من غمدِه دون هدفٍ يضعُه نصبَ عينيهِ قبلَ أن يبدأَ المعركة. فإن رأيتَ أحدَهم يقاتلُ، فاعلم أنَّه يدافعُ عن شيءٍ ما أو يرغبُ في الوصولِ إلى شيءٍ ما. في الحالتينِ هناك غايةٌ.

وأنتَ، ما غايتُك وأنتَ تقفُ أمام أعدائكَ في الحياةِ، ينظرونَ إليكَ بعيونِهم التي تلمعُ خبثًا وشرًّا، ينتظرونَ اللحظةَ المناسبةَ لإيقاعكَ في شباكِ الآثامِ؟ هل هدفكَ أن تعودَ إلى الجنةِ التي أُخرجتَ منها وتثأرَ لأبيكَ آدمَ من إبليسَ؟ أم أنَّ هدفكَ أكثرُ نبلاً، أكثرُ قيمةً، وكبيرٌ جدًّا، لا يسعُه الأرضُ والسماءُ؟

بقدرِ ما كان هدفُكَ عظيمًا، بقدرِ ما سيكون سعيُكَ إليهِ عظيمًا

لمن تُقرعُ طبول الحربِ داخلَكَ يا ابنَ آدمَ؟ هل للجنةِ وملذّاتها فقط، أم للقاءِ ربِّ تلكَ الجنةِ، مرفأكَ الآمنِ لسفنِكَ الضائعةِ، ومجدافِ النجاةِ حينَ توشكُ على الغرقِ، خالقكَ الذي أطعمَكَ من جوعٍ وآمَّنكَ من خوفٍ، ولم يترككَ عندما تخلَّى عنكَ الجميع؟ كان معكَ في كلِّ مرّةٍ ومُرَّةٍ، لأنّه قريبٌ، لأنه خالقُكَ، لأنّه اللهُ. عندما تجعلهُ هدفكَ ستظهرُ قوتُكَ وشجاعتُكَ في الحرب.

اجعلِ اللهَ هدفَكَ، لأنّه بقدرِ ما كان هدفُكَ عظيمًا، بقدرِ ما سيكون سعيُكَ إليهِ عظيمًا.

هذه ملحمتُكَ وحدكَ وجهادُكَ لنفسكَ، إمّا أن تخرجَ منها رافعًا لواءَ النصرِ، وإمّا أن تخرجَ منها منحنِي الرأسِ مهزومًا. 

"وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت 6)