لماذا كرة القدم وليس الكريكيت مثلاً؟
الكريكيت، كرة السلّة، الهوكي، التّنس، الكرة الطائرة (الفوليبول)، كرة الطاولة... هي أسماء وضعت بهذا التّرتيب وفق أكثر الرياضات شعبية في العالم بعد كرة القدم. والعجيب أنّ قاسمها المشترك هو "الكرة". هذا السّطح الهندسي ثنائي تام التناظر، الناتج عن دوران دائرة حول أقطارها، يبدو وكأنّه قد بُثت فيه كلّ الإثارة الممكنة.
كرة القدم هي الأكثر شعبية عالميّاً. ولدى بعض الشُّعوب كأميركا قد تتقهقر إلى المرتبة الخامسة. كما يمكن أن تصبح الكريكيت هذه اللعبة المعقدة بعض الشيء (كما لا أستبعد) هي الأشهر عالميّاً في المستقبل. الأمر لا يحتاج أكثر من دعمها وصناعة أبطالها إعلاميّا حتى تنتشر كالنّار في الهشيم. لكن حتى الآن، تظلّ، وبلا منازع، كرة القدم هي الأكثر شعبية؛ مع أنّنا قد لا نتساءل كثيراً عن السّبب.
أوّل من لامس الكرة بالقدم حسب الرِّواية التاريخيّة هم البهلوانيّون الصينيّون، قبل 5 آلاف سنة. وعلى رخام قبر إغريقي قبل الميلاد بمئات السِّنين، وُجدت صورة رجل يُلاعب الكرة بركبته. وبالإضافة إلى الإمبراطور يوليوس قيصر الذي عُرف عنه براعته في مداعبة الكرة بكلتا قدميه، فإنّ مؤرخي البلاط الملكي الإسباني يَرْوُون لنا كيف أنّ هيرنان كورتيس قذف كرة مكسيكية، وجعلها تطير عالياً جدّاً أمام عينيّ الإمبراطور كارلوس الزائغتين.
علاقة الكرة بالسياسة تزداد يوماً عن يوم تعمّقاً وتعقّداً ورسوخاً، فلا شيء عاد يُحرجها لتكون في العلن
ولتصبح الكرة على ما هي عليه، كان لزاماً أن تنتقل من إيطاليا إلى انجلترا، حيث استقرّت كالنُّطفة في الرّحم. فالإنجليز كانوا أكثر هوساً بها ولم يتركوها تمرّ دون أن يحوّلوها إلى أشهر لعبة عرفها النّاس، بعد أن خلّصوها شيئًا فشيئًا من فرط فوضويتهم، حيث كانت تُلعب بلا قوانين ولا حدود للاّعبين، ولا مدّة اللعب. لا نعرفُ ما خلّفته من فوضى جماعية وضحايا أحيانا. ما نعرفه هو القوانين الجزرية المُثقلة بأختام الملوك الإنجليز، والتي كانت تُدين ما وُصف بلعبة الرّعاع. منذ وثيقة الملك إدوارد الثاني في العام 1314، إلى حدود عهد الملكة إليزابيث الأولى 1533-1603 التي سنّت قانوناً يقضي بسجن اللاّعبين أسبوعاً كاملاً.
لكنّ هذه القوانين لم تردع اللاّعبين عن الرّكض وراء السّاحرة، ولم تحصر شعبية الكرة التي تضاعفت مع تحسين قانون اللّعبة وإنشاء أكبر النوادي في أوروبا على أيدي عمّال المطاحن والمخابز.
سيوجز الكاتب أوسكار وايلد واقع كرة القدم في تلك الفترة بهذه العبارة: "إذا كانت لعبة الريكبي مخصّصة للبرابرة، يلعبها شباب أنيق، فإن كرة القدم لعبة للشباب الأنيق، يلعبها البرابرة".
في لقطة مصوّرة تعود إلى سنة 1897، حيث يتحرّك اللاّعبون بسراويلهم المرفوعة أعلى من الخصر أو في تلك التي تعود إلى سنة 1901، والتي جمعت بين نيو كاسل وليفربول تُلمسُ عبارة وايلد على نحو واضح؛ حيث اللّعب الفظّ، وغياب اللّمسات الفنيّة والمراوغات الذكيّة. وجُلّ ما كانت تحفل به تلك المقابلات هو الرّكلات العنيفة، والتدخلات الخرقاء والاندفاع جماعة وراء الكرة أينما تدحرجت، ودفعها إلى الشِّباك لصنع فارق في الأهداف. لكن هذا لم يمنع من إبراز قوّة فريق عن آخر، ولا من ظهور لاعبين حقّقوا بعض الشُّهرة.
إنّ إحراز هدف في الشِّباك بات أعزّ مطلب. تهدر من أجله حكومات بعض الدول أموالا طائلة من المال العام دعماً للنّوادي والمنتخبات الوطنية وشراء اللاعبين العالميين الأكثر شهرة
ومع كلّ هذه الرّعونة المثيرة للسّخرية، كانت كرة القدم نظيفة إلى حدّ كبير. بريئة في كونها مجرّد لعبة لم تذهب أبعد من أرجل اللاّعبين. لكن شعبيتها المتعاظمة ستقضي على براءتها وستدفعها إلى التدحرج بعيداً عن الملاعب، وتحديداً في أروقة السّياسة؛ حيث استقرّت في أحضان الديكتاتوريات التي وظّفتها كقوة ناعمة وأداة دعائية قادرة على تشكيل الرأي العام والتسلّل إلى الحياة اليومية وتشكيل الهوية الوطنية.
بلغت هذه الخطّة الجهنّمية مرماها مع موسوليني، حين استضافت إيطاليا كأس العالم العام 1934، وفازت به على أرضها. فكانت الكرة عرضاً دعائيّاً لذوق وقوّة وإيديولوجية إيطاليا الفاشية.
وفي أعقاب الحرب الأهلية الإسبانية استغلّ الجنرال فرانكو نادي ريال مدريد، كرمز في حملته لإعطاء صورة عن إسبانيا الموحّدة على حساب الثقافة الباسكية والكاتالونية والجاليكية. فقد أدى تأمين أفضل اللاّعبين في العالم إلى الاستحواذ على كرة القدم لعقودٍ من الزمن. بل ومُنحوا من خلالها الجنسية مثل: اللاّعب المهاجم دي ستيفانو (الأرجنتيني)، وفيرينتس بوشكاش (المجري)، والمدافع خوسيه سانتاماريا (الأروغواي) الذين مثلوا أحسن تمثيل هذا البلد، وكانوا أفضل سفراء على الإطلاق، كما وصفهم وزير الخارجية فرناندو ماريا كاستيلا.
الدقيقة التّسعون قادرة على توليد موجة عارمة من الكبرياء الوطني المفتقد، والفرح الأسطوري الغامر الذي يطير بالجماهير إلى أبواب مجد كالسّراب
أما اليوم، فإننا نعرف العلوّ الجنونيّ الذي بلغته كرة القدم في الإعلام، بدفعة قوية من السياسة. الشيء الذي أدى بدوره إلى إفسادها، حيث الرّشوة والتلاعب بنتائج المباريات، كما ازدواجية معايير الفيفا. لعلّ آخرها البيان الذي أصدرته بعد أربعة أيام من الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي يقضي باستبعاد منتخبات روسيا من البطولات الدولية والأوروبية، لكنها لم تفعل الشيء نفسه مع منتخبات إسرائيل وقت العدوان الوحشي على قطاع غزّة!
يبدو أنّ علاقة الكرة بالسياسة تزداد يوماً عن يوم تعمّقاً وتعقّداً ورسوخاً، فلا شيء عاد يُحرجها لتكون في العلن. إنّ إحراز هدف في الشِّباك بات أعزّ مطلب. تهدر من أجله حكومات بعض الدول أموالًا طائلة من المال العام دعماً للنّوادي والمنتخبات الوطنية وشراء اللاعبين العالميين الأكثر شهرة. ممّا يدفعنا إلى التساؤل عن المغزى من هذا الخيار الذي يبدو عبثياً أحياناً، وإلى الاستغراب من هذا الحجم الخرافيّ الذي أصبحت عليه الكرة بسبب النّفخ الإعلامي والمالي الذي لم يسبق لهما مثيل.
لكن، وكما يُقال: "إذا عُرف السّبب بطل العجب"؛ فمهمّة كرة القدم اليوم أوسع من خلق جوّ من الإثارة والحماس والمرح؛ إنّ مهمّتها في الأساس هي تبييض وجوه الزعماء وتنظيف أعلام الدول. تغيير المواقف السياسية والإيديولوجية وإذكاء التعاطف؛ بل والأهم شراء السِّلم الاجتماعي من خلال تعويض الشّعوب معنويّاً عمّا تفتقده في واقعها اليومي المُداوم على البؤس والضجر. فالدقيقة التّسعين قادرة على توليد موجة عارمة من الكبرياء الوطني المفتقد، والفرح الأسطوري الغامر الذي يطير بالجماهير إلى أبوابِ مجدٍ كالسّراب ينسيهم فداحة الواقع ومآسيه لبعض الوقت؛ أي جرعة من التخدير الجماعي. كما أنّها الرياضة الوحيدة التي يملؤها الصّخب والضجيج، وأحيانا الهيجان بسبب صراع الهويّات الذي يخرج عن حدود السّيطرة إلى درجة العنف. وقد يستمر صداه في جدالٍ عقيم فارغ، مُنكّه بكيلٍ من الشتائم عبر أبواق الإعلام، ليبلغ أحياناً دوائر السياسة. إذ تكتمل الدائرة التي أحكمت على هذه اللّعبة؛ بحيث يستحيل معها الهروب من كلام الروائي الكبير أمبرتو إيكو عن كرة القدم حين قال: "إنّها أفيون الشّعوب.. إنّه عصر القدم".