لا أحد يذكر سابقيه بخير
لأصدقائي القرّاء، الأمر بسيط. فأنا لا أكشف سرّاً إذا قلت إنّ أفكار الكتابة لا تأتي دائماً من كومة من القراءات والكتب والندوات، ولا من كثرة مخالطة المثقفين والكتاب. كثير منها يأتي من فلاشات بسيطة لا ينتبه إليها إلا البعض، من سلوك هنا وكلمة هناك، من لافتة تشدّ انتباهك، أو من أغنية تسمعها.
منها، مثلاً، أن يأتيك السَّباك لإصلاح أمر ما، في المطبخ أو في السخان المركزي أو غيره. وقبل بدء العمل يلقنك درساً، تشهد حصة جلد لا تنتهي، فتشعر معها بالخجل والجهل والغفلة والإحساس بالذنب الذي ستحتاج لأيام كي يغيب عن ذاكرتك.
طبعاً، الدرس لا يكون لتتعلم أن تصلح الأمر بنفسك مستقبلاً، أو تكتسب خبرة في المجال، بل عناية مطوّلة بالبطل الغائب، الذي مرّ من هنا ذات يوم. إنّه السبَّاك السابق، الشيطان الرجيم، المجرم، مشوّه أصحاب المهنة، العاجز والفاشل، بائع الوهم، الجاهل بالمهنة، المتحيّل عليَّ وعلى أمثالي، الجدير بكلّ العقوبات الممكنة، منها سحب رخصته، استعادة الأموال التي أخذها منّي، تشويه سمعته لدى الخاصة والعامة، تطهير المهنة منه ومن أمثاله، نشر إعلان فيسبوكي عنه، كتابة مقال كهذا ونشره على أوسع نطاق، ولِمَ لا؟ السجن لأنه بالتأكيد تحيَّل على آخرين كُثر بالنظر إلى مسيرته الطويلة في ذلك.
طبعاً، لا يُصلح كلّ أخطائه إلا الخطيب الذي أنا بين يده. سبَّاك نقي، عارف بالمصلحة وعامل من أجلها، لديه خبرة طويلة وسمعة أكثر من طيبة، شهير وعلى نطاق واسع، عمل في النزل والفِلل الفخمة، لدى رجال أعمال ومشاهير، إتقانه للعمل لا يُشق له غبار، الوحيد المشهود له بذلك تقريباً، وهو العنوان الوحيد الموثوق به من بين بقية السباكين. باختصار، يفهم كلّ شيء ويعرف كلّ شيء.
أنا ولا أحد… نمط تفكير ممتد وعابر لكلّ المجالات، فلا أحد يتحدث بإيجابية عمن سبقه والكل يتحدث عن نفسه وإنجازاته فقط
هذا المشهد مجرّد نموذج. والأمر نفسه، وقع لي مع النجار والبناء وغيرهم. لا أحد يذكر سابقيه بخير أو يعترف لهم ببعض النجاح أو يجد لهم عذراً في اختيار ما، أصابوا هنا وأخطأوا هناك.
هي إذن ذهنية تبدو متأصلة، أنا ولا أحد، أنا المنقذ، البنّاء الوحيد... إلى آخر أسمائي الحسنى. لذلك نجد أنفسنا دائما في نقطة الصفر. هو نمط تفكير ممتد وعابر لكلّ المجالات، في الإدارة كما في السياسة، في الثقافة كما في الفلاحة، في الاقتصاد كما في الرياضة. إذن، هي ذهنية السبّاك ومن جاوره.
قد يكون للطبيعة البشرية جانب في بناء هذه العقلية، لكنّ للروافد دورا أيضا، نفسيا اجتماعيا ثقافيا وغيرها. ذهنية غرائزية بتعبير الشاعرالتونسي بحري العرفاوي. هكذا، ذهنية غرائزية في القرن الواحد والعشرين. عقلية فريدة لا شك! في رحاب العلم والمعرفة والثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي... وفي رحاب القيم الإنسانية، إذ تتجاوز الإنسان ليكون للحيوان والنبات مكان أيضا.