كيف نتصوّر الزمن؟
من الطريف أن أذكرَ أنني سمعتُ عبارة: "الزمن استعارة فيزيائية" من أستاذٍ جامعيّ كان يشرحُ لنا عن غربة الزمن عند الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، ففكرتُ في العبارةِ كثيراً إلى أن تعرّفتُ إلى مُؤلَّف: "الاستعارات التي نحيا بها"، لجورج لايكوف ومارك جونسون. يذهبُ السيدانِ إلى إعطاءِ الاستعارة مفهوماً جديداً مغايراً لما جاء به أرسطو، فالاستعارة كما يفترضانِ، لا ترتبطُ باللغة أو الألفاظ فحسْب، بل تقومُ على التجارِب القائمة على تصوّراتنا. عموماً، لا أريد هنا، أن أتحدث عن الزمن وإشكاليّتِه في الأدب، فتلك مسألة أخرى، وإنّما سأتحدث عن الزمن استعاريّا، باعتبارِه كياناً فيزيائيّاً، مرتبطاً بثقافتنا.
سأقيمُ فصْلا بين الفيزياء والثقافة في الزمن، وذلك لتأخذ كلّ استعارة نصيبها من التوضيح، مع أنّ هذا الفصلَ هو فصل وهميٌّ لا يمكنُ حدوثه؛ لأنّ الانسجام بين الفيزياء والثقافة مرتبط ببعضه البعض، فـ "من الصعب التفريق داخل استعارة معينة بين الأساس الفيزيائي والأساس الثقافي، إذ إنّ انتقاء أساس فيزيائي ما من بين أسس فيزيائية أخرى مرتبط بالانسجام الثقافي".
غيرُ خافٍ علينا أنّ علم الفيزياء في أبسطِ مفاهيمه، يسعى إلى دراسةِ الظواهر الطبيعيّة التي تحدثُ في الكونِ، ويسعى كذلك إلى دراسة الكيانات الفيزيائية (سواء كانت تلكم الكيانات معزولة أم لا)، فإنْ أردنا الحديث عن الزمن باعتباره كيانا فيزيائيا؛ فسنسعى في هذه المدوّنة، إلى تأويل ذلك من خلالِ رؤية لايكوف وجونسون للزّمن.
وبالحديثِ سريعاً عن العلاقة بين اللغةِ والفيزياء، مستحضرين المشروع الذي أتى به غيليس فوكونييه (المستوى المعرفيّ)، حيثُ يعتقدُ أنّ اللغة ليستْ مرتبطةً بالعالم الفيزيائيّ، إذْ لا تعكسُ العباراتُ اللغوية الواقعَ الحقيقي. وهذا منطقي؛ لأنّ اللغة لا تنسخ الواقع.
إنْ كان الزمن كياناً معزولاً عن الذات البشرية؛ فإننا سنُجري مقولته، ومن ثمّ سنعتبره داخل/ خارج ذواتنا
يخبرنا لايكوف وجونسون في مؤلفهما آنفِ الذكر، أنّ الأشياءَ عندما لا ندركها بآلياتنا الحسيّة، فإننا نُمَقوِلُها من خلال افتراض حدودٍ اصطناعية نسقطها على تلكم الأشياء، فيتمّ تصوُّرها كياناتٍ معزولة. وعليه، فإنْ كان الزمن كياناً معزولاً عن الذات البشرية؛ فإننا سنُجري مقولته، ومن ثمّ سنعتبره داخل/ خارج ذواتنا.
ما الزمن؟ وكيف يمكن أن نتصوّره؟
إنّ بعض الأشياء التي نستخدمها في حياتنا تكون واضحة، ولأنها كذلك، لا يمكننا تعريفها أو تفسيرها. فالزمن كلّما حاولنا تعريفه اشتدّ إبهامه؛ فلا نرى تأثيثاً واضحاً له، ولقد حاولتْ الميتافيزيقا الإجابة عن ماهيّة الزمن في حدِّ ذاته، لكنها لمْ تصل إلى إجابة يمكن الاعتماد عليها في كلِّ الأزمنة.
يخبرنا تاريخ الفيزياء أنّ الزمن منذُ أرسطو إلى نيوتن كان مطلقاً، إذْ شبّه الأخيرُ الكونَ بالمسرح، وبهذا يكون الزمن متجهاً للأمام دائما، ولا يتأثرُ بشيء. فأتى من بعد ذلك ألبرت آينشتاين، مفنِّدا تصوّرَ "الزمن مطلق"، معتبرا أنّ الزمن نسبيٌّ، وبعدٌ رابعٌ يتأثّرُ بالأبعادِ المكانيّة. ولهذا نجدُ عند آينشتاين مصطلح: الزمكان.
هل الزمن أمامنا ونحن وراءه؟ أم أننا أمام الزمن وهو وراءنا؟
نجدُ من تتبعِنا لتاريخ الزمن في الفيزياء أنّ أقرب وصفٍ للزمن؛ اعتبارُه تصوّرا ذهنياً مرتبطاً بأحداث متكرّرة؛ فبات من المعقول أن يصبح الزمن "مفهوما شخصيا"، فنحن نفهم الزمن من خلال تصوّرات أخرى: دورة الأرض حول الشمس، حركة عقارب الساعة، البندول...
نعرفُ أنّ الزمن كمية قياسيّة لا متجهة، أي أنّ الزمن يُعرف بمقدار فقط، ولا يمكنني أن أعكس اتّجاه الزمن في الواقع، فهندسةُ أجسادنا لا تسمح لنا بتعدّد الاتجاهات في الزمن، إذْ يكفي للتعبير عن الأخير اتجاهين: أمام/ وراء، لكنّ المسألة تحتاجُ إلى توضيح أكثر، هل الزمن أمامنا ونحن وراءه؟ أم أننا أمام الزمن وهو وراءنا؟
للإجابة عن ذلك؛ يطرح لايكوف وجونسون أمثلةً كثيرةً:
نقول: أمامي خمسة أيام، ولا يمكن أن نقول: ورائي خمسة أيام.
كما يمكن أن نقول: الأسبوع الذي يلي هذا [الأسبوع] ولا أقول الأسبوع الذي يليني.
إننا وبهذا الافتراض، نجعل الزمنَ ذا بُعديْن فضائييْن، أمام/ وراء.
كما يقدِّم لنا لايكوف في مقطع مرئي استعارتيْن:
أولهما أنّنا نأتي على الزمن [أي أن الزمن ساكن]، فكثيرا ما نقول: سنقبلُ على العيد. آخرهما، أن الزمن متحرِّك ونحن نسير إليه، مثل: أتى العيد..
من المؤكّد أنّ الاستعارة الأولى؛ لا تصحّ فيزيائيا، فالزمن ليس ساكنا، وإنّما متحرك، ولكن هذا لا ينفي صحّة الاستعارة ثقافيا، فالزمنُ يحدثُ في وعاء فيزيائي، نُحدّده من خلال كيانات مستقلّة، فالمحاضرات، والأمسيّات الشعرية، والزيارات، والحفلات.. إلخ. وتلك جميعُها كيانات مستقلّة، لها بداية ونهاية، ويتم حدوثها في زمان ومكان محددين.
الزمنُ يحدثُ في وعاء فيزيائي، نُحدّده من خلال كيانات مستقلّة
وبالعودةِ إلى الزمن ثقافيّاً، نقولُ في ثقافتنا: فلان أضاع وقته، لا وقت لديّ لأخسره، فلان يستغلّ وقته، امنحني جزءاً من وقتك، لقد سرقت وقتي...
من الملاحظ أنّه عندما نبيّن تصوّراً ما استعاريّاً بواسطة تصوّر آخر، فإننا بذلك، نعطي العبارة الأخيرة مفهوم الاستعارة البنيوية. فنتصوّرُ الزمن بألفاظٍ استعاريّة من المال؛ والأخيرُ موردٌ محدود وثمين، وكذا الزمن.
وقد نقول: الوقت يطير، الوقت يمشي بسرعة، الوقت يمرّ، جاء الوقت المناسب....
وتلك استعارة بنيوية أخرى، وذلك بتصوّر الزمن شيئاً متحرِّكاً.
إنّ الاستعاراتِ التصوّريّة كثيرة في حياتنا، كما أنّها تختلفُ من ثفافةٍ إلى أخرى، وهي كذلك تنشأ من خلال أنسقتنا التصوّرية التي نرى بها العالم، باعتبارها جزءاً من اللاوعي المعرفي، فمتى ما قلنا عبارة لا تسلم منها استعارة، فبالاستعارات نحيا وهي بنا تحيا، وعندما نفكِّر بالاستعارة، سنصل إلى نتيجةٍ مفادها: "أن الفكر كله استعاريّ" يقومُ على تصوّراتنا التي نمنتجها وفق ثقافتنا وتجاربنا.